ضوابط لغوية للصياغة القانونية
يستعرض هذا المقال محتويات بحث مختصر واضح عنوانه: الضوابط اللغوية للصياغة القانونية، كتبه د.سليمان بن عبدالعزيز العيوني، وقد نشر في العدد التاسع والعشرين من مجلة العلوم العربية بجامعة الإمام في شهر شوال عام (1434). يقع البحث في صفحات المجلة من (207) حتى (245)، ويتكون من مقدمة، ثم بيان أهمية اللغة في الصياغة القانونية، ويعقبها تحديد الضوابط اللغوية للصياغة القانونية التي ذكر منها أحد عشر ضابطًا، وأخيرًا الخاتمة وثبت المراجع التي ناهزت الأربعين. ومن نافلة الاعتراف- إن كان في الاعتراف نوافل- أن هذا الاستعراض لا يغني عن الرجوع للأصل، والاغتراف من معينه العذب مباشرة.
أما الدافع الذي حفز أستاذ اللغة على الشروع في بحثه فهو ما رآه من أخطاء في صياغة وكالة من إحدى كتابات العدل؛ فوجدها صياغة أقرب للأعجمية منها للعربية! ومن غيرته ونصحه أن سأل وناقش المسؤولين حتى عرف أن الخلل يعود إلى مشروع تقني جميل في أصله بيد أنه لم يعتن باللغة وعلومها كما يجب، وهو الخطأ الذي تداركته وزارة العدل مشكورة؛ فأصلحت الصيغ بما يجعلها أقرب لسنن اللسان العربي القويم.
وبناء على ذلك درس الباحث ثلاثة أنظمة سعودية ولائحة تنفيذية لأحدها، فخرج بضوابط لغوية تعود إلى أربع مجموعات هي: ضوابط معنوية، وضوابط لفظية، وضوابط تركيبية أسلوبية، وضوابط في الإملاء والترقيم. وهذه الضوابط متفاوتة في أهميتها وكثرة الأخطاء المرتبطة بها في الأنظمة محل الدراسة. ومن المهم أن يُراعي صائغ القانون اللغة وأحكامها حتى يؤدي الشكل وظيفته في بيان المضمون، ويخدمه دون غبش، أو تعارض، أو نشوء فهم خاطئ لمواد القاعدة القانونية.
ويجب فيمن يصيغ القانون أن يكون ملمًا بلغة القانون الخاصة وباللغة العربية؛ لأن لغة القانون الأكاديمية والقضائية والتشريعية تقوم على المباشرة والوضوح والإلزام بلا توسع ولا حشو ولا استطراد ولا مجاز. ويَهُمُّ صائغَ القانون منها ما يَضْبِطُ المفردات والتراكيب اللغوية من حيثُ تصريفُها واشتقاقُها ومعناها، أيْ يَهُمُّهُ منها ثلاثةُ علومِ هي: علمُ الدلالة الذي يَتَّصل بمعاني الكلمات والتراكيب، وعلمُ النحو، وعلمُ التصريف أو الصَّرْف.
فغاية الضبط اللغوي ألّا يَكْثُرُ الاجتهادُ والتأوُّلُ لنصوص القانون، وهو مأخذ يزيد حينَ تكونُ الصياغةُ ضعيفة، أو محتملة، أو غير محدودة الدلالة. وتَبْرُزُ الأهميةُ الكبرى للصياغة القانونية إذا كان القانونُ دستورَ المختلفِين. وهنا أحب د.سليمان التأكيدَ على وجوبِ ضبط كلِّ كلمة محتمِلة في الأنظمة واللوائح والقرارات، ومع الأسف أنه قلَّما يكونُ ذلك! وسرد د.العيوني أربعة أمثلة على أخطاء وقع عليها وغيرها كثير، وقدَّمها بين يدي البحث ليتبينَ أهمية الضوابط اللغوية في صياغة الأنظمة واللوائح والقرارات الإدارية. والخطأ في هذه الأمثلة على التوالي وقع في معاني الكلمات، والنحو، والتصريف، والأساليب، وقد صححها الكاتب ليغدو عمله أشبه بالدرس التطبيقي، وهو الأسلوب الذي جرى عليه في سائر أمثلة ورقته البحثية، ومن واجب القول الثناء على هذه الطريقة.
ونقل الباحث أن أي جملة قانونية لها سمات غالبة من أهمها:
- طول الجملة، واعتمادُها كثيرًا على التراكيب المتداخلة.
- التباعدُ بين أجزاءِ الجملة كالفعل وفاعله ومفعوله، والصفة والموصوف، والمبتدأ وخبره.
- كثرةُ الألفاظِ المقيِّدةُ في الجملة، وكثيرًا ما يكونُ هذا بشكل مُفْرِطٍ، لتكونَ الجملة مُحَدَّدةَ المعنى، غيرَ قابلةٍ للتأوُّلِ على غير معناها.
- ازدحامُ الجملةِ بتفاصيلَ تَجْعَلُ من الصَّعْبِ اختراقُها، وهذا قد يُؤَدِّي إلى صعوبة التمييز بين أجزائها (المسند والمسند إليه، المعطوف والمعطوف عليه).
ثمّ شرع د.سليمان في بيان الضوابط اللغوية لصياغة الأنظمة واللوائح والقرارات الإدارية بإجمال، وتعودُ هذه الضوابطُ مهما تَنَوَّعَتْ وتَعَدَّدَتْ إلى وُجُوب موافقة الصياغة للُّغةِ البَلَدِ الرسمية. وأشار الكاتب إلى أن هذه الضوابط تأتي من جهة اللفظ الذي يجب أن يكون عربيًا أو معربًا من مؤسسة معتمدة، ومن جهة التركيب فلا يكونُ في الصياغة أساليبُ مُوَلَّدةٌ، ومن جهةِ المعنى فلا يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ أو التركيبُ في غير معناه العربي.
وبعد هذا الإجمال فصّل الباحث الضوابط إلى ما يلي:
أولًا: الضوابطُ المعنويةُ:
- موافقةُ العبارةِ للمعنى.
- الدقةُ والوضوحُ.
ثانيًا: الضوابطُ اللفظية:
- الطهارةُ من الأخطاءِ النحوية والتصريفية.
- عدم استعمالِ الألفاظ العامية غيرِ السليمة لغويًّا.
- عدمُ الحَشْوِ والاستطراد.
- استعمالُ الأفصح والمتفقِ عليه أولى من الفصيح والمختَلَفِ في صِحَّتِهِ والضعيفِ.
ثالثًا: الضوابطُ التركيبيةُ الأسلوبية:
- صحةُ الأسلوب.
- عربيةُ الأسلوب.
- عدمُ اختلافِ الأسلوب بلا داعٍ أو حاجة.
رابعًا: ضوابطُ الإملاءِ والترقيم:
- مراعاةُ قواعدِ الإملاء، واتفاقُها في المسألة الواحدة.
- مراعاةُ علاماتِ الترقيم.
وهناك ُ ضوابط لغويةٌ في عُرْفِ القانونيين لا تَدْخُلُ في صُلْبِ البحث، منها كونُ المخاطبِ بالمفرد لا بالجمع، ومنها أن كثيرًا من الصائغين القانونيين يُحَبِّذُونَ أنْ تكونَ الصياغةُ بالفعلِ المضارعِ المبنيِّ للمعلوم وليس لما لم يسمّ فاعله.
ومن الطريف المحزن أن الباحث كاد ألّا يذكر ضابط الطهارة من الأخطاء النحوية والتصريفية وهو من الضوابط اللفظية؛ لأنه من الضوابط البدهية، وصرفه عن نيته بالتجاوز أن وجد أخطاء نحوية وتصريفية في صياغة بعض الأنظمة واللوائح والقرارات، وهذه الأخطاء خطايا لا تُغتفر؛ لأن السلامةَ منها سهلةٌ جدًا، والاستعانة بأهل التخصص طريق ميسور ومأمون لعلاج جميع الأخطاء اللغوية في الأنظمة وما يتصل بها، ومن الوصايا العملية للبحث إضافة لجنة من أهل اللغة لمراجعة سبك النظام ولغته قبل إقراره؛ فجمال اللغة يمنح المادة فخامة في المنظر، وجمالًا في العين، ومهابة في النفس.
جزى الله أستاذنا البروفيسور سيمان العيوني خيرًا لغيرته على بلاده ولغتها وأنظمتها، وبورك علمه وجهده في بحثه المختصر البين، والتحية له على أمثلته الواقعية مع شرح الخطأ وسببه، وذكر البديل الصواب، فهذا التطبيق يرسخ الصواب في ذهن المتلقي، ويني لديه الملكة، خاصة عندما يكرر القراءة بنية التعلّم والفهم، وليس لمجرد الثقافة أو الاطلاع العابر. وعسى أن تكون مثل هذه المادة باعثًا نحو صرف العناية باللغة في التعليم والإعلام والصياغات وغيرها؛ ذلك أن الخطأ شين مشين مثل جدري قبيح على وجه حسناء، وكم يجدر بذوي الجاه والظهور فينا أن تغدو لغتهم المحكية والمكتوبة والصادرة بتوقيعاتهم رفيعة وجيهة بارعة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 14 من شهرِ شعبان عام 1443
17 من شهر مارس عام 2022م