سير وأعلام

محمود طيبة: الحنون المنير

محمود طيبة: الحنون المنير

قد ينبهر بعضنا حين يعلم أن معالي المهندس محمود بن عبدالله بن عبدالقادر طيبة (09 من رمضان 1348-13 من رجب 1429) هو أول مهندس كهربائي سعودي، وربما يكون أول مهندس ميكانيكي أو من أوائلهم، ومن قدماء المبتعثين السعوديين لدراسة الهندسة، وعمل مديرًا للإدارة الوحيدة-في حينها- المسؤولة عن الكهرباء والمصانع. وهو أول مدير عام لمركز الأبحاث والتنمية الصناعية الذي أنجز المدن الصناعية الأولى في الرياض وجدة والدمام، وأول محافظ للمؤسسة العامة للكهرباء وهو الأخير كذلك، إضافة إلى أنه عندما عرض عليه العمل وكيلًا لشؤون التجارة والصناعة في وزارة التجارة والصناعة خلفًا للأستاذ عمر فقيه وافق مشترطًا فصلها إلى وكالتين وهو ماكان وأصبح د.سليمان السليم وكيلًا لوزارة التجارة قبل انفصال الوزارة إلى قسمين في أول عهد الملك خالد، وجرت عادة غالب الناس على اكتناز المسؤوليات لا دفعها. ومن أولياته أنه أول عضو عين في مجلس الشورى ثمّ أصبح نائبًا له وهو يحمل وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة إبان عضويته.

ولربما أن الإعجاب بالرجل يزداد حين نعلم أنه كان أحد الشركاء الأساسيين المؤثرين في خطط تعميم الكهرباء على أنحاء المملكة، حتى اعترف له بالفضل د.غازي القصيبي، وسماه م.علي البراك أبو الكهرباء، وأفصح البراك عن إكباره لرقي تعامله مع الناس كافة أيًا كانت مستوياتهم الوظيفية، وأثنى آخرون على اجتهاده في بناء علاقات حسنة مع الطواقم الوظيفية، وعلى ابتغائه خير المجتمع واناسه وفق ضوابطه وأعرافه المقبولة. وقد أصبح اسم المهندس طيبة مرتبطًا بالإنارة والإضاءة والتبريد والتشغيل وجميع خيرات الكهرباء وبركاتها التي ينعم بها الناس والمصانع والشركات والمدن والقرى بما ومن فيها.

كما أن تقديرك للرجل النقي النزيه سوف يزداد حين تسترجع قصة رفضه مبلغ رشوة ضخم من شركة أجنبية منافسة على مشاريع الكهرباء، وأتاه العرض وهو في فندق بلندن، فطلب منهم إكمال التفاهم في الرياض، وأخطر وزيره القصيبي، وبعد تنسيق مع وزارة الداخلية، ألقي القبض على موظف الشركة ومعه مليون ريال في بيت مهندسنا العفيف، وحين علم الملك خالد بذلك منحه وسام الملك عبدالعزيز، وأصر الأمير فهد- ولي العهد آنذاك والملك فيما بعد- ألّا يخرج المليون من داره ليصبح ملكًا حلالًا له. والحمدلله الذي جعل دخول هذا المال الخبيث إلى منزل الرجل الأمين سببًا في تطهير المال وأيلولته لمن يستأهله، علمًا أن أصل المبلغ هو عشرة أضعاف هذا المليون الذي سبق إخوانه ليكون مقدمًا لعملية وأدتها أمانة المهندس طيبة.

لكن قف! فنحن لا نقف في الحديث عن المهندس التقي عند هذا الحدّ على ما فيه من بهاء وجلال. فلك مثلًا أن تعلم بأن حكاية الرشوة ظلت طي الكتمان عقدين من الزمن حتى أشهرها أبو يارا في سيرته الباذخة، ولذلك استمر المهندس طيبة عرضة لحبائل الشركات ومكرها، فإحداهن رسي عليها عقد ضخم، فأرسلت شيكًا له في مكتبه بخمسة ملايين، وحين فتح الرسالة ووجد الشيك كتب عليه إحالة ليودع في حساب الحكومة بمؤسسة النقد مع إرسال كتاب توضيحي منه لوزير المالية. ومرة أخرى تواصلت معه شركة ثالثة لتغريه برشوة مالية، وبعد مفاهمة مع المسؤولين وافق شكليًا، وحول المبلغ إلى خزينة الدولة على أن يكون مصرفه لمؤسسة الكهرباء، وحرمت الشركة الخاطئة من المنافسة على المشروع عقابًا لها.

مع ذلك لا تقف يا رعاك الله! فهذه المواقف المبدئية من الرجل الصالح كانت في زمن يكاد أن يكون المال العام نهبًا لكل ذي يد ومقدرة، والعمولات وغيرها من الرشا شأن متعارف عليه وأثرى من سحتها عدد غير يسير، بينما كفّ صاحبنا وعفّ وامتنع. وليس هذا فقط فأي أحد يبعث له بهدية عينية ثمينة يرفضها ويقول له: تبرع بثمنها لعمل خيري. وفي بيته يحرم على أولاده لمس أي شيء يخص عمله ولو كان قلمًا بنصف ريال! وإن تستعظم منه ذلك فدونك هذه الواقعة ملخصة إذ سعى له وزيره المحب د.غازي القصيبي، فحصل على منحة ملكية له خالصة الحل؛ فباع أرض المنحة وجعل ريعها كله تبرعًا لصالح جمعية الأطفال المعاقين، هذا وهو غير ذي مال أو ثراء، وثمن الأرض المباعة وصل إلى بضعة ملايين.

أرجو عقب ذلك ألّا يغضبك إذا ما طلبت إليك ألّا تقف أيضًا! فللمهندس محمود طيبة شأن مجتمعي متجاوز للحدود، ذلك أن الله قذف في قلبه حب اليتامى ورحمتهم، فصرف قسمًا غير يسير من جهوده لإنشاء جمعيات تعنى بالأيتام في المملكة والباكستان والبوسنة وغيرها، وشيّد مدن أيتام في بعض المناطق، وأنفق من وقته وجاهه على تلك الجمعيات مستجلبًا لها الدعم، ومستمرًا في رئاسة مجالس إدارتها، حتى تدفقت عليها تبرعات الأثرياء ثقة به، ونالت أعماله الجوائز المحلية والدولية، وأصبح الرجل إمامًا في هذا الحقل؛ ولعله ممن يظفر بمصاحبة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام يوم القيامة. ومن حدبه على أيتامه أنه يكلف الثقات بالسؤال التمحيصي عمن يخطب فتاة يتيمة، ويسافر ويرجع في يوم واحد كي يتابع سقوط يتيمة من شرفة، ويتحقق، ثم يدبر الأمر منعًا لتكرار الحادث.

ثمّ إني أظنك تتوقع أنك لن تقف هنا؛ وفعلًا فلن تقف! فمن فرائد المهندس محمود أنه لم يقتصر على منح العناية للأيتام في أماكنهم، بل كان أول من طبق طريقة الحضانة مع اشتراط الرضاعة لليتيم كي يسلك اليتيم في نظام الأسرة ويدخل في عقدها دون أن يكون وضعه نشازًا بعد بلوغ اليتيم أو اليتيمة. وهكذا فعل مع يتيمة اختارها بعناية وهي مصابة بشلل رباعي، فكفلها، وضمها لبيته، وطلب ممن حوله إرضاعها مع الرضع في الأسرة لتحصل لها المحرمية، وأغدق على الفتاة من الحنان والرعاية حتى درست في الجامعة، ولأجلها هي ومثيلاتها اُفتتح قسم جامعي لذوي الاحتياجات الخاصة. كما نصّ على رعاية الفتاة بوصيته، واشترى لها بيتًا يؤويها من صروف الزمان، وأشرف بنفسه على تلبية مطالبها دون تفويض أحد حتى لو كان عائدًا للتو من سفر طويل منهك، وحتى لو اقترح عليه الآخرون أن يكملوا المهمة عنه، ومن دقائق حفاوته بها شراء سيارة خاصة مناسبة لوضعها، ووضع مصعد في المنزل لها ولم يستخدمه إلّا حين قعد به المرض الشديد؛ ولا غرو بعد ذلك أن يقول: إن “روان” أرجى أعمالي عند مولاي.

ولن أدعك تقف كي أخبرك عن هذه الواقعة؛ فذات مرة أراد نائب رئيس مجلس الشورى الشيخ بكري شطا من بعض الأعضاء التبرع لسداد دين محتاج أقلقته الديون وأثقلت كاهله أجرة البيت؛ فتبرع بعضهم بالميسور ما بين ألف وخمسمئة ريال، إلّا ماكان من رجلين أحدهما ميسور براتبه المرتفع وبشركاته الكثيرة ومع ذلك دفع مئة ريال فقط، والآخر هو المهندس محمود طيبة الذي تعهد بإكمال المبلغ حين تنتهي تبرعات الأعضاء، وهو ما جعل النائب يقارن بين حالين متناقضين إذ يدفع الثري مبلغًا قليلًا وحري بمثله التوسع في الصدقة والإحسان، ولا يتوانى الآخر غير الثري عن التعهد بسداد نواقص المبلغ أيًا كانت!

أجزم أنك الآن متيقن أنه لا وقوف في هذا الموضع! ولذلك فدونك هذه الأخبار الأخيرة الجليلة، ففي حياة المهندس مساجد بنيت، ومعها مرافق للقرآن والنفع العام أقيمت. وتولى في بعض الأحيان بنفسه الآذان والإمامة، ومن خبره في الصلاة أنه يطيل المكوث فيها سواءً أكان منفردًا أم إمامًا، وله في بيته ركن يخلو فيه بربه ساعات السحر وهو شيخ منهك من العمل والمسؤوليات والمرض. أما صلاته بالآخرين فهي طويلة جعلت البعض يقترحون أن تكون استضافته لمقرات عملهم في غير وقت الصلاة، واستثمر آخرون ذهابه للوضوء وهم على متن الطائرة كي يصلي بهم غيره. وحرصه على إطالة الصلاة الخاشعة يقابله حرص على العمل المتقن حتى قال عنه عارفوه: إن العمل معه من فرط إخلاصه ونصحه متعب للغاية.

من أخبار شيخنا وزاهدنا المهندس المكي المكين أنه يستخدم سماعة في أذنيه تعينه على السمع، فإذا خاض الجلاس بما لا يستسيغه أطفأها من خلال زر التحكم الموجود في ساعة يده، ويشرع في الذكر بأنواعه. ويرفض النميمة بجميع أشكالها ويبغضها حتى أنه يكره كتابة كلمة “نمي إلي”. ويضع أمامه لوحة فيها الآية الكريمة من سورة القصص ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ …”. ولأبي هانئ علاقة مثالية مع زوجه وأبنائه وبناته وعامة أسرته، مع تحرزه من الخلطة الزائدة المضيعة للوقت والأجر.

ويشاء الله أن يصاب المهندس بالسرطان وهو على رأس العمل نائبًا لرئيس مجلس الشورى، ثم توفي يوم الأربعاء الثالث عشر من شهر رجب عام (1429)، وصلي عليه في مكة التي دفن فيها، وشارك في الصلاة والعزاء والمواساة فيه الملوك والأيتام فمن بينهما. وقد اتصل الملك عبدالله بأنجاله وقال لهم: والدكم رجل عظيم اشتغل فوق طاقته، بينما قال الملك سلمان لهم: كأني فقدت واحدًا من أسرتي فعظّم الله أجرنا. وظلّ مكتب الملك عبدالله -بناء على توجيه من الملك- يتصل بأولاده بين فينة وأخرى بعد وفاة والدهم للاطمئنان على أحوالهم والسؤال عن حاجاتهم في مثال بديع من الوفاء واللحمة، ولعل ما عند الله لرجل الدولة النزيه كافل الأيتام الرحيم يكون خيرًا له وأبقى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 13 من شهرِ شعبان عام 1443

16 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. رحم الله معالي المهندس محمود طيبة . واسكنه فسيح جناته .وبارك الله له في اولاده وذريته وكثر من امثاله والاقتداء بافعاله هنيئا لبلده ومجتمعه وعائلته بهذا الرجل الناجح الذى بذل كل جهده وطاقته بعمله وبفعل الخير

  2. رحتلي من اليتيمية إلى الدكتوراه ثمر جهود الوالد المهندس محمود طيبه رحمه الله
    سعادة الاستاذ أحمد بن عبد المحسن العساف
    أشكركم على هذا المقال الجميل عن والدنا المهندس محمود عبدالله طيبه رحمه الله، وأود أشارككم رحلتي مع هذا الرجل العظيم
    أثناء القراءة في هذا المقال وقع بصري على كلمات تعبر أن من إنجازات المهندس محمود طيبة، وهي: (فللمهندس محمود طيبة شأن مجتمعي متجاوز للحدود، ذلك أن الله قذف في قلبه حب اليتامى ورحمتهم، فصرف قسمًا غير يسير من جهوده لإنشاء جمعيات تعنى بالأيتام في المملكة والباكستان والبوسنة وغيرها، وشيّد مدن أيتام في بعض المناطق).
    وعليه فأقول بأنني أحد الأيتام الذي نال ظلال كفالة المهندس محمود رحمه الله، وأنا من منطقة جبلية نائية في زاوية من زوايا باكستان، درستُ في المدرسة التي أنشأها والدنا المهندس محمود طيبه رحمه الله وهي: مدرسة دارحراء للأنجال في باكستان، ومن ثم أكملتُ بقية الدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحصلتُ على درجة البكالوريوس، ودرجة الماجستير، وها أنا أكمل الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، ولله الحمد. فجزى الله عني والدنا المهندس محمود طيبة خير الجزاء، وجعله في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة كما وعد كافل اليتيم.
    وبعد هذا العرض، أود أن أشكركم، فلكم الشكر والتقدير على كتابة هذا المقال عن (والدنا الموقر) الرجل العظيم.
    كما أرجو أن تكون لكم علاقة مع أحد أفراد عائلة المهندس محمود طيبة رحمه الله، وذلك لأنني أرغب في زيارتهم، وتقديم الشكر لهم على ذلك الإحسان والدعم الذي قدموه، الذي حول حياة يتيم ضائع إلى حياة مشرقة ومنورة بنور العلم. كما أقدم إليهم نسخة من رسالتي في مرحلة الدكتوراه.
    أرجو من سعادتكم التعاون معي في هذا الشأن، وأنا واثق من أن توجيهكم ودعمكم سيكون له الأثر البالغ في الوصول إليهم.
    أسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم يوم نلقاه
    ولكم جزيل الشكر والعرفان،
    أخوكم
    د. محمد بن عبدالرحمن
    دكتوراه في التربية الإسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)