جغرافيا النزاعات الجديدة!
قبل عشرين عامًا اشتريت هذا الكتاب، وقرأته مباشرة، ثمّ كتبت بعض التعليقات عليه، وانتقيت منه بعض المواضع اللافتة، وكانت نيتي متجهة آنذاك لجعله أول كتاب أستعرضه. ويشاء الله ألّا أفعل، وأن تسبقه مئات الكتب، وكلما تذكرته حزنت لتأخيره لأهمية موضوعه، ولأنه أول كتاب بدا لي حينها أن أبدأ في التدوين عنه ضمن سلسلة من القراءات التي أوجد فكرتها أو بعثها بعد رقود. ومع ذلك فالشيء الذي يدرك بعضه خير مما يهمل كله، وفي كل تأخيرة خير وعقبى حميدة بإذن الله.
عنوان هذا الكتاب هو: الحروب على الموارد: الجغرافيا الجديدة للنزاعات العالمية، تأليف: مايكل كلير، ترجمة عدنان حسن، صدرت طبعته العربية الأولى عن دار الكتاب العربي في بيروت عام (2002م) ويقع في (309) صفحات، مكونة من الفهرس ثمّ تسعة أقسام فملحق يعقبه هوامش لكل فصل. والمؤلف أستاذ جامعي في دراسات السلام والأمن العالمي، ويعمل مراسلًا في شؤون دفاعية وحربية لمجلة أمريكية، وله عدة مؤلفات تختص بالنفط والتدخل الأمريكي، ومن المهم ملاحظة أن ما يكتبه هو وغيره ليس وحيًا مقدسًا بل رأي بشري بناء على معلومات أو أمنيات أو تحليلات اقتنع بها، وقد لا تخلو من أغراض وأهواء، وعليه فلا يسلّم له بما فيها.
قسم المؤلف كتابه إلى عدة أقسام تحمل العناوين التالية:
- الثروة والموارد والقوة: المعالم المتغيرة للأمن العالمي، وهو مقدمة الكتاب الممهدة لموضوعه.
- النفط والجغرافيا والحرب: السعر التنافسي وراء وفرة النفط.
- الصراع النفطي في الخليج.
- الصراع على الطاقة في حوض بحر قزوين.
- حروب النفط في بحر الصين الجنوبي.
- الصراع على الماء في حوض النيل.
- الصراع المائي في أحواض نهر الأردن ودجلة-الفرات ونهر الهندوس.
- الاقتتال على ثروات الأرض: الحروب الداخلية على المعادن والخشب.
- الجغرافيا الجديدة للصراع، وهو الخاتمة.
- الملحق النزاعات الإقليمية في المناطق الحاوية على النفط و/أو الغاز الطبيعي.
تقوم فكرة الكتاب على أن النزاع العالمي في القرن الجديد سيكون مدفوعًا بالصراعات حول الموارد، وبناء عليه سوف تزداد أهمية مواضع ومواقع وممرات وموارد وبلاد، وربما تنقص أو تضمحل أهمية بقاع أخرى، وتظهر خرائط تحالفات جديدة بناء على المصالح الدولية. ولهذه المسائل أهمية كبرى في توجيه الحراك السياسي والاقتصادي والبيئي، وفي بناء العلاقات والتحالفات، وتدعيم الأمن القومي، وهذا شأن لا يخص الدول الكبرى التي تنهض به وله أيما نهوض، وإنما لأي دولة تسعى للتأثير أو حماية نفسها ووجودها على الأقل.
فمن الأماكن التي سيكون لها بروز شديد حسبما جاء في الكتاب حوض بحر قزوين (الذي يشمل أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان، مع أجزاء من روسيا وإيران) إذ يختزن 270 بليون برميل من النفط، أي حوالي خمس احتياطات العالم الإجمالية المؤكدة من النفط (يختزن الخليج العربي 675 بليون برميل من الاحتياطات المؤكدة). كما تقدر وزارة الطاقة الأمريكية أيضًا أن منطقة قزوين تحوي حوالي 665 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهو ما يمثل ثمن احتياطات الغاز في العالم. وتأمل واشنطن في تحويل الحوض القزويني إلى مصدر بديل للطاقة يمكنه أن يسد الحاجات الغربية عندما تجمد أو تعلق شحنات النفط من الخليج، وقد وضعت أمريكا عدة مسارات لطاقة بحر قزوين كي تصل إلى مخازن أمريكا عبر الحلفاء في النيتو وغيرهم، ولو كانت العلاقات الأمريكية الإيرانية حسنة لأمكن اختصار المسافات والأوقات.
ومنها جنوب بحر الصين الذي تدّعي سبع دول هي (بروناي والصين وأندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام) أن لها الحق الحدودي في عرض البحر كي تمتلك مساحات كبيرة من الماء. ومن المرعب قول المؤلف إن بحر الصين الجنوبي يحتوي على كافة المقومات لأجل مواجهة عسكرية كبرى بسبب الموارد، والقواعد العسكرية، والممرات المائية، وإحاطته بقوى عالمية كبرى، مع ما لأمريكا فيه التزامات تجاه اليابان والفلبين. وتبثق الخطورة من وجود قوة عالمية حول البحر لا تجعل الطاعة لواشنطن فرضًا مفروغًا منه ما لم تصب نتائج العلاقة مع أمريكا في مصالح بيجين، وعليه فالمنطقة مخيفة على ثرائها وحيوية موقعها المهم.
ولا يوجد مكان يحتمل أن يكون الصراع فيه أكثر دموية من إفريقيا الغنية بأربعة موارد أساسية هي: النفط والمعادن والأحجار الكريمة والخشب، لذلك حظيت هذه القارة بعناية أمريكية فائقة لدرجة أنها تدريب جيوش ثلاث وثلاثين دولة من ثمانية وأربعين دولة إفريقية جنوب الصحراء، وتتعاون معها في جوانب كثيرة، وتستورد أمريكا من إفريقيا (16%) من النفط؛ وهي نسبة مرشحة للزيادة في العقود القادمة. ومن المحتمل أن تشهد إفريقيا صراعًا أكبر على الموارد في السنوات المقبلة؛ فكل الشروط المعززة للعنف متوافرة فيها مثل: تركيزات كبيرة من المواد الحيوية، ونزاعات إقليمية عديدة في مناطق تؤوي مكامن ثمينة، وضعف الاستقرار مع انشقاق سياسي على نطاق واسع، ويؤجج ذلك وجود جيوش خاصة ومرتزقة، وتاريخ من التآمر بين شركات الموارد الأجنبية وأمراء الحرب المحليين.
وفي القرن الحادي والعشرين، فإن الصراع على إمدادات الماء الحيوية هو خطر قائم على الدوام في منطقة شاسعة تمتد من شمال إفريقيا إلى الشرق الأدنى وجنوب آسيا، حيث يتجاوز الطلب على الماء العرض القائم. ولأن كثيرًا من المصادر الرئيسية للماء في هذه المنطقة يشترك بها بلدان أو أكثر، ولأن الدول المعنية نادرًا ما وافقت على الإجراءات الخاصة باقتسام الإمداد المتاح، ستصبح الخلافات على الوصول إلى الموارد المتنازع عليها ساخنة ومثيرة للصراع على نحو متزايد، وسيكون هذا الخطر شديدًا في المناطق التي يتصل فيها هطول المطر وتعتمد بضع بلدان فيها على مصدر كبير واحد من الماء لتلبية حاجاتها الأساسية مثل نهر النيل، ونهر الأردن، ونهر الفرات.
كما يمكن أن تنشأ النزاعات على حرية الوصول إلى المسطحات المائية التي تعد ضرورية لأجل نقل المواد الحيوية، مثل الخليج العربي وقناة السويس، إذ أن نسبة كبيرة جدًا من مدخول النفط اليومي للعالم تسافر به السفن عبر هذه الممرات، ويكفي أن نعلم بأن مضيق هرمز، الذي لا يبلغ عرضه في أضيق نقطة منه أميال، يوصف من قبل وزارة الطاقة الأميركية بأنه نقطة اختناق النفط الأكثر أهمية في العالم، ولأجل هذا تزدحم القوى العالمية والإقليمية حول الممرات والمضائق وفي منطقة القرن الإفريقي بدوله المختلفة.
كذلك تمتلك السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران وفنزويلا وروسيا والمكسيك والولايات المتحدة وليبيا والصين ونيجيريا والنرويج والمملكة المتحدة -تمتلك- مجتمعة كل المخزون العالمي المعروف من النفط باستثناء (10%) منه. وبين هذه البلدان الأربعة عشر، يتركز امتلاك النفط على نحو عال لدى المنتجين الخمسة الرئيسيين وهم: السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران، الذين يملكون معًا حوالي ثلثي المخزونات العالمية، وغالبية البلدان المدرجة في هذه المجموعة شهدت حربًا أو ثورة أثناء السنوات والعقود الماضية، والكثير منها لا يزال يواجه تحديات داخلية خارجية. ولا يوجد مورد يمكن أن يثير الصراع بين الدول في القرن الحادي والعشرين أكثر من النفط الذي ينظر إليه ليس على أنه سلعة عسكرية أساسية فقط؛ بل شرط أساسي لاستقرار الاقتصاد العالمي.
أما متفرقات الكتاب فمنها أن حماية تدفقات الموارد العالمية أصبحت سمة بارزة على نحو متزايد للسياسة الأمنية الأمريكية، ففي تقرير لاستخبارات الولايات المتحدة ورد اعتراف صريح بأن أمتنا لن تكون آمنة إذا لم تكن إمدادات الطاقة العالمية آمنة! ورأى كلينتون أن الازدهار في الداخل يعتمد على الاستقرار في المناطق الرئيسية التي نتاجر معها أو نستورد منها السلع الحيوية، مثل النفط والغاز الطبيعي؛ ولذلك فالترسانة الأمريكية العسكرية جاهزة لحماية مصالح أمريكا ولو داست بأقدامها وسلاحها الثقيل وقوتها العنيفة كل المواثيق والأعراف وقرارات ما يوصف بأنه الشرعية الدولية.
أيضًا من المحزن أن الباحثين في البنك الدولي وجدوا عبر دراسات مستفيضة أن الدول ذات الموارد الهامة “القابلة للنهب” مثل: الألماس والخشب والنحاس، يزيد احتمال أن تشهد حربًا أربعة أضعاف النسبة عن الدول التي ليس فيها سلع أولية ثمينة. ووفقَا لدراسة حديثة فقد خسرت الأرض حوالي ثلث ثروتها الطبيعية المتاحة فيما بين عامي 1970 و 1995 نتيجة للنشاط البشري، أي أكثر مما خسرته في أي مدة أخرى في التاريخ، وما أشنع العالم حين تصبح الثروات سببًا للشقاء والنقص!
وأخيرًا من المتفرقات فإن خطر الصراع على الإمدادات المتناقصة من المواد الحيوية هو الأكثر مدعاة للقلق بسبب سمة رئيسية أخرى لمعادلة الموارد العالمية هي أن كثيرًا من المكامن الرئيسية لمصادر الطاقة تمتلكها أمتان أو أكثر، أو أنها تقع في مناطق حدودية متنازع عليها، أو في نطاقات اقتصادية في عرض البحار يحضر فيها الكبار الذين يخشى العالم كلهم من احتكاكهم بله تصادمهم، ولذلك تحضر أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا في أماكن كثيرة من العالم عجل الله بتطهيرها منهم.
إن الأطروحة المركزية لهذا الكتاب هي أن حروب الموارد ستصبح في السنوات المقبلة هي السمة الأبرز للبيئة الأمنية العالمية. ومرد ذلك كل الأسباب الموجزة فيما مضى من فصول الكتاب وهي: الأولوية الممنوحة للاعتبارات الاقتصادية من قبل الزعماء السياسيين، والطلب المتزايد دومًا على تشكيلة واسعة من السلع الأساسية، وحالات النقص المحيطة ببعض المواد الرئيسية، وانعدام الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق تضم مخزونات كبيرة من السلع الحيوية، وتكاثر النزاعات على ملكية المصادر المهمة للإمداد بين عدة بلاد.
وحتى تتضح طبيعة هذا المشهد الناشئ تخيّل خريطة للعالم تُمثل عليها المكامن الكبرى للمواد الحيوية بألوان مختلفة: الأسود للنفط والفحم، والأزرق للماء، والأبيض للألماس والأحجار الكريمة، والأخضر للخشب، والأحمر للنحاس والحديد والمعادن الرئيسية الأخرى. وعندما تلون الخريطة بهذه الطريقة، فإن أعيننا ستقفز بشكل طبيعي إلى مساحات ذات كثافة العظمى بلون أخضر وأزرق في منطقة الأمازون وجنوب شرق آسيا، وفي الخليج بلون أسود، وتستولي أفريقيا جنوب الصحراء بالأبيض والأحمر وهكذا، والنتيجة هي جغرافية إستراتيجية جديدة تكون فيها تركيزات الموارد بدلًا من الحدود السياسية هي السمات المحددة الكبرى لأي نزاع.
ومن الجلي جدًا أن هذه العوامل الرئيسية الثلاثة: سياسة أمن النفط والموارد الحيوية، والقوى المحركة للطلب والعرض، والتقييدات الجغرافية، سيكون لها تأثيرات أساسية في تحديد احتمال الصراع على النفط والموارد مستقبلًا وعلى المسابقة إلى موقعها لفرض السيطرة عليها؛ فكل عامل كاف بحدِّ ذاته لإثارة شبح سفك الدماء، لكن اندماج العوامل الثلاثة كلها هو الذي ينتج الخطر الجدي للحرب.
هذه الخطورة التي ستكون موجودة في معظم المناطق المنتجة للنفط والموارد التي أشير إليها أعلاه، لكن خطر الصراع الأكبر سيكون في تلك المناطق التي يتقاطع فيها عرض النفط وبقية الموارد مع المصالح التنافسية للولايات المتحدة والقوى الإقليمية الكبرى، فالكبار لا يقدمون على مصالحهم أي شيء، وهي فرصة للدول الغنية بالموارد إذا أرادت تنسيق مواقفها، وكسب بعض الأوراق لإحداث شيء من الضغط من أجل كسب مصالح ومغانم حالية ومستقبلية لتلك البلاد ولشعوبها، والله يحفظنا وبلادنا وثرواتنا، ويكفي عالمنا شرور الجشع والظلم والعدوان.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 04 من شهرِ شعبان عام 1443
07 من شهر مارس عام 2022م
2 Comments
مقالاتك عن السياسة
ليست لإيقاد قلم
أو سد مرقدٍ على المدونة
بل هي جميلة جداً
شكرا لكم.