عرض كتاب مواسم ومجتمع

بلادنا قبل النفط!

بلادنا قبل النفط!

ما أجمل التفاف الأبناء والبنات حول الأبوين في جلسة يومية، وهو جمال يتضاعف إذا كانت الأحاديث فيه متبادلة، والأجهزة مبعدة، فيغترف الأبناء من خبرات والديهم ومعارفهم، وينصتون للتوجيه والنصح، وبالمقابل يقترب الأبوان من أفكار الجيل وخواطرهم، وسيبلغ الجمال مداه حينما يقود الحوار الأسري إلى تأليف كتاب سابق أو نادر في موضوعه، كما حدث من إسلام وزياد وغادة وريما أنجال المؤلف وهم يباحثونه في شأن ثقافي ملح.

لأجل ذلك، وحتى يجيب مؤلفنا عن أسئلة بنيه وجيلهم ومن سيأتي عقبهم، ظهر بعد عقود من البحث والقراءة والمراجعة هذا الكتاب بعنوان: أحوال جزيرة العرب قبل النفط دراسة تحليلية للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسكانية للأقاليم التي تكونت منها المملكة العربية السعودية خلال القرن ١٣ه (١٩م)، تقديم العلامة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، تأليف أحمد بن حمد بن ناصر اليحيى، صدرت طبعته الأولى في الرياض عام (١٤٤١=٢٠٢٠م). وفي أعلى ركنه الأيمن مكتوب من ذاكرة التاريخ؛ فهو كتاب ينبش التاريخ ويتكئ عليه؛ كي نعيش الحاضر حامدين شاكرين غير مسرفين ولا منكرين.

يتكون كتابنا من المحتويات، ثمّ تقديم الشيخ حمد الجاسر فمقدمة كتبها المؤلف، يعقبها خمسة فصول وصولًا إلى الخاتمة فمصادر الكتاب الذي يقع في (٥٥٠) صفحة من القطع الكبير، وتتنوع مصادره ما بين (٩٥) مرجعًا عربيًا، و (٢١) مرجعًا أجنبيًا، و (٨) مصادر للصور. ويحتوي الكتاب على (٣٠) جدولًا توضيحيًا مهمًا، و قريب من (١٠٠) صورة تشتمل بعضها على عدة صور مجمعة. وتمتد صحراء الجزيرة العربية برمالها الفاتنة على الغلاف الأمامي، بينما يوجد على الغلاف الخلفي سيرة مختصرة للكاتب السفير والمسؤول وعضو مجلس الشورى.

كان من الطبيعي أن يبدأ الكتاب بالفصل الأول وعنوانه من ذاكرة التاريخ في (٣٤) صفحة، وفيه شيء عن الجغرافيا الثابتة للمنطقة، وإلمام بالتاريخ المتحرك. أما الفصل الثاني فعن معالم الحياة الاجتماعية عبر (١٣٨) صفحة فيها حديث عن العادات والتقاليد مثل الكرم والشجاعة والحمية، ومراسم الزواج والطلاق والتكافل الاجتماعي، وشيء من شؤون الغزو، مع تعريج على الأدب والترفيه والفنون. ثم يخبرنا المؤلف اليحيى عن أساليب العيش في البناء والتأثيث والخدمات والمطعم والملبس والتسلية والتعامل مع الطقس وحيوانات البيئة غير المستوحشة، ويقف مع جوانب التعليم والصحة والتواصل إبان تلك الأزمان الماضية.

وجاء الفصل الثالث ليتحدث عن معالم الحياة الاقتصادية عبر (١٥٨) صفحة، وهو أطول فصول الكتاب، وفيه مدخل لاقتصاديات الأقاليم التي تشمل الزراعة والرعي والصيد والحرف اليدوية والمعادن والتجارة، وبعدها بيان أدوات الاقتصاد بما فيه من عملات وأوزان، ويتلوها مصادر الإيرادات وتقلبات الأسعار والمصروفات ووسائل النقل واقتصاديات الأقاليم الخمسة نقلًا عن المصادر التي أحصتها، وقد أثنى المؤلف على إحصاءات الدخل وعدد السكان حسبما أوردها “لوريمر” في موسوعته و “بلجريف” فيما كتبه، علمًا أن أيّ رحالة يكتب تقريرًا استخباراتيًا غايته نفع بلاده وليس النشر الدعائي، يكون تقريره دقيقًا في معلوماته حسبما يبلغه علم المؤلف، ودرجة استقصائه، دون أن تكون بالضرورة صحيحة؛ ففوق كل ذي علم عليم.

ثمّ أحصى الفصل الرابع السكان وتوزيعهم ويقع في (٧٢) صفحة استوعبت جميع تقديرات سكان الأقاليم من حاضرة وبادية حسبما ذكره الرحالة فيما عاد إليه المؤلف، وبعضها أرقام تقترب من المعقول، ولا يخلو بعضها من ملحظ أو اضطراب لم يفت على المؤلف البصير. وآخر فصل خامسها بعنوان أشغال السكان وطبائع مهنهم ويتكون من (١١٨) صفحة تحكي لنا عن العمل وتقسيمات المهن بما فيها أعمال النسوة مع الاحتفاظ بحشمتهن، ومن طريف هذه الأعمال خدمات الرضاعة. وقد وضع المؤلف جدولًا مبتكرًا للمهن تبين منه أن نصف السكان تقريبًا يعملون في مهن تقليدية من زراعة ورعي وصيد، وأشار المؤلف للمهن الدينية والمنزلية والأمنية وغيرها، وتعرض للأجور وكيفية تسوية الخلافات.

كما درس أبو إسلام اتجاهات التنقلات (الهجرة) داخليًا وخارجيًا، ومن الانتقالات الخارجية ذكر قوافل العقيلات إلى الشام ومصر والعراق، والاتصال المبكر مع الزبير والكويت والبحرين ومنهم والد المؤلف، وهذه تخص أقاليم نجد وحائل والشمال. ومنها الانتقال إلى مصر وتركيا والسودان وهي تخص أهل الحجاز وتهامة، ودافع غالب تلك الرحلات البحث عن لقمة عيش، أو الهروب من أوضاع معيشية صعبة، أو طلب العلم، والحمدلله على فضله وإحسانه، ورحمته على أولئك المكافحين في قبورهم حيثما كانت.

وفي الخاتمة طلب المؤلف من عامة القراء إمداده بما لديهم من صور ومعلومات، أو إبداء الرأي بما يفيد بعد أن فتح نافذة علمية قلّ من تصدى لدراستها دراسة شاملة ذات أثر فيما أعلم كما كتب العلامة الشيخ الجاسر في تقديمه الذي أشاد فيه بمحاولة المؤلف حين طرق هذه الموضوعات؛ ليرسم الدرب لمن شاء المسير أو المواصلة أو حتى التوقف في إحدى محطاته، ومن الملاحظ أن هذا التقديم كتب قبل عشرين عامًا من طباعة الكتاب؛ إذ صرم المؤلف هذين العقدين في خدمة كتابه ومراجعة المادة لإثرائها، وما أحسن الأعمال الجريئة الجادة التي تؤخذ بقوة وصبر.

هذه المادة التي بين أيديكم هي التي نشأت من سؤال بنيه كما أسلفنا، وقد حقق المؤلف بها حلمًا طالما راوده وإن لم تسعفه المصادر المحلية بالمعلومات لانشغالها بالتاريخ السياسي والعسكري، مع أنه وجد فيها شذرات صالحة، ثمّ غاص في كتب الرحالة والمستشرقين ملتزمًا جانب الحذر من التعميم والافتراء؛ فنقل بعد تمعن وإنعام نظر، وهو منهج علمي يتأكد خاصة حينما ننقل عن المخالفين والغرباء. ولم ينس الكاتب شكر الذين شافههم وأخذ منهم رواية محكية ثمينة، إضافة إلى المكتبات المحلية التي رجع إليها، وخصّ د.حمد الدخيّل لمراجعته لغة الكتاب، ونجله زياد لعونه في تصميم الكتاب وطباعته.

إنه كتاب يحكي عن عراقة مجتمعنا، ويكرس عراقة الأسر، ويبين عن شخصية إنسان هذه البلاد التي يجدر دراستها دراسة علمية مبينة نافعة. وإنه لجدير بنا أن نكرر مع المؤلف الأستاذ أحمد اليحيى قولته قي مستهل الكتاب: حق لنا أن نتذكر فنفكر في ماضينا لنأخذ العبر كيلا نتقهقر، ولأجل ذلك فعسى أن يأخذ هذا الكتاب مكانه اللائق في مكتبتنا المحلية، وأن يفتح الشهية لمؤلفات أخرى في الحقل الخصب ذاته.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 18 من شهرِ رجب الحرام عام 1443

19 من شهر فبراير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)