الزكاة والكتابة!
التأمل أحد موارد الكتابة الكبرى، شريطة ألّا يشان باعتساف بعيد أو ممجوج. وفيما سبق من تجارب عن ربط الكتابة مع العيد ثم الحج وأخيرًا الصيام، حافز على كتابة هذه المقالة حول الكاتب والزكاة إضافة إلى ما في الجعبة من أفكار أخرى شبيهة. ومن البراعة المطلوبة للكاتب أن يطور لديه مهارة نفيسة تصنع الفرادة له في بعض ما يكتب، وهي اكتشاف العلاقات بين الأشياء أو اختراعها دون أن تكون مقحمة أو غير واضحة المأخذ والدلالة.
لذلك فهاهنا ربط بين الزكاة وما يشبهها من أعمال تعبدية مالية، وبين الكاتب وفعل الكتابة وصنعتها، فالزكاة تجب إذا بلغ المال النصاب، وهي تجب في جزء يسير من المال والأنعام والمجوهرات والثمار وغيرها مع الإبقاء على الأصل، ومن دروسها للكاتب ألّا يستعجل الكتابة قبل بلوغ النصاب المعقول من القراءة والسماع والتفكير وملاحظة التجارب، كي ينال من العلم والثقافة والفكر ما يعينه على مهنته بعد تمام الاستعداد الذهني والنفسي لها.
ثمّ إنه لا يحسن أن يكتب المرء كلّ شيء خطر في ذهنه أو يعرفه أو حتى علمه واستيقن منه، وإنما ينتقي المناسب للزمان والمكان والحال، والمفيد لمن يتلقاه، والمعبّر عما يكتنزه الكاتب من علوم ومعارف وخبرات دون أن يكون كلابس ثوبي زور، وهذا بالضبط مثل الزكاة حين يعفى عنها في أصناف من الممتلكات والأموال بغضّ النظر عن مقدارها، فالكتابة قد لا تلائم في بعض الموضوعات لحراجتها، أو لضعف التعمق فيها، أو لغناء غيرها عنها.
كما أن الزكاة وأنواع الصدقات والهبات والعطايا تخرج من أصحابها برضا كامل، وعن طيب نفس، وتصطفى من أحسن الممتلكات، وهي برهان على الإيمان والتسليم، ويحذو الكاتب هذا المنحى الرشيد عندما يمتاح من ذهنه أحسن ما فيه، ويظهر من تجاربه أرقاها، ومن مشاعره أصدقها، ثمّ يصدر عمله عن قناعة تامة به وبجمال تمثيله لصاحبه، على أمل أن يقبله العقلاء من الموافقين ومن المخالفين، ومن يأباه منهم فلن يُعدم منه تقدير كمال إهابه، وجودة بطانه، وقوة مادته، ومنطقية محتواه.
والزكاة تجب لأصناف دون غيرها، ومثلها الكتابة فلا يوجد كاتب يستوعب كل مجال، وفي التخصص تركيز وإجادة وفرصة للإتيان بالجديد الباهر. ومن أصناف الزكاة المؤلفة قلوبهم وما أجمل أن يكون في بعض الكتابة تأليف للقلوب والمجتمعات واستبقاء للمودة والأمن. ومن أصناف اوعاء الزكوي الذين غرموا المال لأجل بقاء المعروف في المجتمع، وما أحرى الكتّاب الشرفاء بمناصرة المعروف وأهله حتى لا تنكشف الجبهة الداخلية للمفسدين. وقد جعل الله النفقة على سبيله بمعناه الخاص والعام من الزكاة، وإن الكاتب لممن ينفق الأفكار والكلمات وذو الحظ العظيم فيهم من جعلها في جنب الله ومرضاته.
أيضًا للزكاة حول زمني يجب صرفها بعده مباشرة، أو حال لا تتأخر عنه البتة، وقد يقدم البعض زكاته لسبب أو نازلة، أو يقسمها على أزمنة، أو يتحرى بها أوقاتًا فاضلة، وأماكن مباركة، ابتغاء مضاعفة الأجر، ودوام النفع، وما أجدر الكاتب حين يلتقط هذا المعنى؛ فلا يؤخر البيان عن وقته، أو يتراخى في أحوال الحاجة إليه، أو يتثاقل عن اغتنام الفرص السانحة للكتابة بالترافق مع زمن أو موسم أو حدث، وإن الاقتناص الرشيد لمن الحكمة التي تخدم القناص.
كذلك مما يلحق بالزكاة أمر الصدقة وفيها زيادة وتوسع إذ تُصرف لغير الأصناف الزكوية، وربما كان أوقعها أثرًا ما صرف على غني ثري حتى ينبسط للعطاء، وتهش نفسه للبذل وربما كانت شحيحة أو متكاسلة فيما قبل، ومثله الكاتب الذي يكتب كلمة في اختصاص غيره لعلهم أن يتحركوا وينشطوا لإثراء المحتوى الذي يتقنونه. وفي زكاة الفطر رسالة إذا أكمل الكاتب شيئًا من أعماله الضخمة فحواها ألّا ينسى أن يرفده بنوع آخر مختصر من الكتابة يكمل نقصه، ويسد خلله.
والزكاة تنمو عند الله حسب تعبّد صاحبها وإخلاصه في دفعها مع ما يقوم في قلبه من يقين ومحبة ورجاء ثواب الله ومرضاته، ومثلها الكتابة المخلصة النافعة التي تأتي حين فترة أو ضعف أو خمول فيحيى بها مجتمع وأناسه وفضائله؛ فكما أن الأقربين أولى بالمعروف ومنه المال بصفاته المختلفة، فكذلك المخرجات المكتوبة يغدو خيرها ما نفع الأهل والجيران والأصحاب في حاضر شأنهم ومستقبله.
وإن دافع الزكاة وواهب المال ومعطي الهبات وباذل الصدقة يفعل ذلك وهو يعلم أن المال الذي لديه نعمة أكرمه الله به دون أحقيّة ولا استقلال بتحصيله عن قدر الله وأمره وحكمه، وهو يرجو من الله القبول أولًا، والخلف ثانيًا، والنماء والحفظ لما بقي ثالثًا. وليس ببعيد عنه منهج الكاتب الذي يستيقن بأن مقدرته وموهبته ليست عن علم عنده، ولم يؤتها بقوة خاصة له، وإنما هي فضل من الله ونعمة تستلزم الشكر، والاستخدام المبارك لها، وعسى الله أن يزيده منها، ويجعله قدوة وإمامًا.
بقي أخيرًا أن أقول بأن الزكاة تزكي النفس والمال والحال، وتستجلب لها الطيبات والمكارم، وتشرح الصدر والخاطر، وغالب أموال الزكاة لا تخرج إلّا من كسب حلال؛ فأهل الحرام بالربا والنهب والغصب والغش والسرقة قلما تخرج زكاة أموال يكتنزونها ويراكمونها. وعلى المنوال ذاته فالكتابة تشرح نفس الكاتب وتمنحه أجنحة يطير بها، وتزكي صاحبها إن في خلقه أو في أعماله، والأصل أن يجتهد أيّ كاتب في زكاة فكره ومعانيه وألفاظه، وأن يتحاشى بها أيّ خبيث أو مشبوه أو محرم؛ لأنه يخرج الزكاة عما اختصه الله به دون آخرين كثر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-أبها
السبت 04 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
05 من شهر فبراير عام 2022م