السعودية.. في أحلام اليقظة الصهيونية!
تنطلق السعودية وإسرائيل من عقيديتين مختلفتين جذرياً؛ وبينهما من العداء ما لا يحتاج إلى برهان؛ لكن من المفارقات أن الدولتين ترتبطان بعلاقات وثيقة جداً مع حليف قوي واحد، وتتشاركان في ذات المخاوف؛ فالقوة النووية الإيرانية مقلقة للبلدين، والربيع العربي أزعجهما، وصعود بعض التيارات إلى سدة الحكم قبل الثورات العربية وبعدها لم يكن أمراً مرحبا به عندهما، والصداقة العلنية بينهما مستحيلة؛ فهي مكسب ضخم لإسرائيل؛ بيد أنها خسارة فادحة للسعودية التي تتكئ على مرجعية شرعية، وحضور خاص في العالم الإسلامي.
وبين يدي كتاب يستحق القراءة وعنوانه: السعودية والمشهد الاستراتيجي الجديد، من تأليف اليهودي: أ.د.جاشوا تيتلبام، وتقديم اللبناني الشيعي: فؤاد عجمي، وترجمة السعودي السني د. حمد العيسى. وقد صدرت الطبعة العربية الأولى منه عن دار مدارك للنشر في مايو (2014م) قبل وفاة فؤاد عجمي بشهر تقريباً، ويقع في (111) صفحة من القطع المتوسط بإخراج أنيق، وعلى الغلاف صورة تجمع علمي السعودية وإيران، وفي داخل كل علم صورة لزعيم الدولة الأخرى، وأظن أن الحرج منع مصمم الغلاف من وضع علم إسرائيل فهي مرتبطة جداً بموضوع الكتاب!
استهل المترجم كتابه بتنويه-وهو أمر بدهي لكني أعذره حين ابتدأ به-وملخصه أن الترجمة لا تعني الموافقة على مضمون الكتاب، ومصطلحاته، وتحليلاته، وإنما الغرض منه إطلاع المعنيين على ما يقوله أهم مفكري إسرائيل عن المشهد السياسي. وقد ثارت على الكتاب قبيل نشره ضجة أراها مصطنعة؛ وربما ذات أبعاد تنافسية أكثر منها أخلاقية، وإذا كانت الرواية عن اليهود في تفسير القرآن العظيم جائزة بضوابطها، فأي بأس في ترجمة ما يقولونه مع الإشارة إلى يهوديتهم، لا كما يفعل البعض حين يدلس على قرائه بذكر جنسية الكاتب التي تخفي ديانته وأصوله.
تمنى المؤلف في تقديمه للنسخة العربية من كتابه أن يُقرأ في السعودية، وأثنى على مبادرة السلام السعودية-العربية لاحقاً-، التي أظهرت-برأيه-أن الرياض لا تكنُّ عداء تجاه إسرائيل واليهود. ويذكر المؤلف أن الربيع العربي قوض الاستقرار في المنطقة؛ لأنه لن يجلب للحكم غير الإسلاميين، هذا غير مضي إيران الحثيث في صنع السلاح النووي، وتزايد نفوذها في العراق، ولبنان، وسورية، واليمن، مع ضعف إرادة أوباما لوقف المساعي الإيرانية أو إعاقتها، مما جعل السعودية وإسرائيل تفقدان الثقة في الموقف الأمريكي. ولذا فلا مهرب من عمل مشترك ينطلق من هذه الاهتمامات المتقاطعة، وهو ما يتمناه المؤلف؛ خاصة أن إسرائيل تثق في أن دول الكتلة السنية لا تعتبرها عدواً لدوداً، والبروفيسور جاشوا تيتلبام خبير بسياسة المنطقة؛ فغالب دراساته تكاد أن تنحصر في العالم العربي، وفي الجزيرة العربية على وجه الخصوص.
ثم كتب فؤاد عجمي تقديماً للكتاب، والحقيقة أن فؤاده مستعجم لدرجة أنه يناصر المحافظين الجدد بتطرف لا يخفى. وقد أثنى على أبحاث معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد حيث يشغل عجمي فيه منصب زميل أول، والمعهد بمثابة خزان تفكير صرف اهتمامه للشيوعية؛ فلما أفلت صوب دراساته باتجاه الشرق الإسلامي، والحركات الإسلامية عبر مشروع جديد اسمه “مجموعة هربرت وجين دوايت لدراسة الإسلاموية والنظام الدولي”، ويصف فؤاد مجموعته بأنها جزء لا يتجزأ من المواجهة مع الإسلامويين الراديكاليين-كما يصفهم-، واعتبر أن حرب الأفكار هي الركيزة الأولى في مساعي معهد هوفر، وأكد على أن أكبر تحد استراتيجي في القرن الحادي والعشرين يتمثل في نزع وإبطال الأفكار الراديكالية وإصلاح الدولة في العالم الإسلامي، وأن هذه الجهود العلمية تهدف للمعرفة التفصيلية عن العدو-لاحظ أن الكاتب هنا عربي مسلم!-.
وأشار فؤاد عجمي إلى أن إنتاج المعهد الأمثل يأتي على شكل مقالات طويلة، وأن معركتهم طويلة من أجل الإسلام المعاصر(!)، وبثقة-ليتها تتسرب لواجهاتنا الثقافية-يقول: إن الفريق العامل لن يعتذر عن الدور الأمريكي في العالم الإسلامي-هذا الدور استنكره أمريكيون أصليون مثل تشومسكي وهوارد زن-، وأنهى تقديمه بتعريج مختصر على هذه المقالة؛ معتذراً عن أي نقص يعتريها لأنها تعالج شؤون بلد غير شفاف.
ثم استعرض المؤلف تاريخ الحماية الأمريكية للسعودية، حيث اعتبر روزفلت حماية السعودية أمراً استراتيجياً عام(1943م)، ثم أُعلن مبدأ كارتر عام(1980م) وملخصه حماية الخليج من التدخلات الخارجية وإن اضطرت أمريكا لاستخدام القوة المسلحة كما في حرب الخليج الثانية عام 1411=1990م. وفي عام (1981م) صدر استنتاج ريغان الذي يؤكد بأن أمريكا لن تسمح للسعودية أن تصبح كإيران، وبناء على المبدأ والاستنتاج زاد الوجود العسكري الأمريكي في الخليج من خلال قوة الانتشار السريع؛ ثم القيادة المركزية الأمريكية.
وكانت السعودية وإيران عمودين توأمين للحلف الأمريكي في المنطقة، فلما جاءت الثورة الإسلامية في إيران انهار عمود، وبرز مكانه نظام يمثل تهديداً دينياً غير مسبوق للعمود الآخر، وقد تبع هذه الثورة-وربما كان نتيجة لها-أعمال شغب شيعية في شرق السعودية الغني بالنفط، ثم تصدير الثورة إلى لبنان من خلال حزب الله ومضايقة النفوذ السعودي هناك، ويتعجب المؤلف لأن اتفاق الطائف رسخ الوجود الإيراني في لبنان بصورة دائمة، من خلال الاعتراف بمنزلتي سوريا وحزب الله في لبنان!
وعلى الجانب السني تطرق المؤلف لاحتلال الحرم عام1400=1979 م، وعلل الاحتلال بأنه نتيجة لتدليل المتطرفين الوهابيين من قبل الحكومة-وما أعجب بعض التعليلات-، وقد تسببت الحادثة بعبء إضافي على الأمن الداخلي المنشغل بشيعة الشرقية، ولذا تخلصت الحكومة من الخطر السني-على ذمة المؤلف- بدفع الشباب للجهاد في أفغانستان متقاطعة بذلك مع المصالح الأمريكية، ومن لم يذهب للجهاد شغلته بالدعوة إلى الإسلام في الغرب، وبذلك تفرغت للخطر الإيراني من خلال دعم المجهود الحربي لصدام حسين، وإجهاض المحاولات الإيرانية المتكررة لتعكير موسم الحج.
وقد خلق انهيار الاتحاد السوفياتي مشهداً استراتيجياً جديداً، فاحتل صدام الكويت، واضطرت السعودية للاستعانة بالكفار، ونجمت معارضة سنية لهذا التدخل؛ وكان أعنف تجلياتها في شخص أسامة بن لادن، ومن المفارقات أن الدعم السعودي للجهاد الأفغاني كان مفتاحاً لبروز هذه المعارضة. وعانت السعودية من عنف سني في تفجير الرياض، تلاه عنف شيعي في تفجير الخبر، وبينما أغلق الملف الأول بقتل منفذيه، لا يزال الثاني مفتوحاً مع وضوحه دون أي حراك فعلي من إدارتي كلينتون أو بوش!
وبسبب التلكؤ الأمريكي في معاقبة إيران اكتشفت السعودية حقيقة مرة ملخصها أن أمريكا لا يعُتمد عليها في مواجهة إيران! ولذا فضل السعوديون عقد صفقة مع إيران تمتنع السعودية بموجبها عن تزويد الأمريكان بما يدين إيران على أن تكف إيران عن دعم النشاط الإرهابي داخل المملكة، ولازال هذا التقارب الحذر صامداً حتى ساعة تأليف الكتاب في سبتمبر(2010م).
وأفاض المؤلف في الحديث عن هجمات 11 سبتمبر، وبين أن السعودية راجعت مشهدها الاستراتيجي بعد هذه الهجمات فوجدت أنها أمام مشكلتين:
الأولى: الإرهاب السني الداخلي.
الثانية: صعود إيران، وزاد من أثر ذلك احتلال العراق من قبل أمريكا؛ ثم تسليم مفاتحه لإيران، مما جعل السعودية تغض بصرها عن تدفق المجاهدين من أراضيها باتجاه العراق-من نافلة القول أني ألخص قول المؤلف وإن لم أوافق عليه-.
وازداد التوتر السعودي الإيراني لوجود بصمات مساندة إيرانية للمعارضة السنية السعودية فضلاً عن دعمها المؤكد للمعارضة الشيعية، ومع أن السعودية تعاملت مع الأعمال الإرهابية بكفاءة يُثنى عليها إلا أنها واجهت مشكلة عميقة حول شرعية نظامها؛ وأصبح التساؤل عن مدى إخلاص النظام لتعاليم الإسلام وميثاق الحلف الوهابي-السعودي يُطرح بإلحاح حتى بين المعارضة السلمية، وهذا ما جعل الملك عبد الله-كما يزعم المؤلف-يحرص على عدم استفزاز عناصر المجتمع المحافظة بقراراته؛ لأنه يعلم أن الوهابيين يراقبونها بعمق!
وبعد ثلاثين عاماً من قيام الثورة في إيران أصبح لها وضع جديد في المشهد يهدد المنافس الإقليمي السني، فمن مكونات هذا المشهد تحالفات دولية سياسية وعسكرية واقتصادية، ودعم الإرهاب الشيعي في الخليج والشام ومصر واليمن، وزوال نظام البعث من العراق، وارتفاع أسعار النفط، وانتصارات حزب الله داخل لبنان أو المتوهمة-حسب وصفه- ضد إسرائيل، فضلاً عن تسارع المشروع النووي في إيران، وبذلك ازدادت هيبة إيران في المنطقة خاصة بعد التراجع الأمريكي، ونتج عن هذا الوضع الاستراتيجي الجديد تحديات أمنية داخل السعودية من الأكثرية السنية والأقلية الشيعية.
ويزداد حرج الموقف السعودي في كونها ذات دور قيادي في العالم السني، وأي نعومة في التعامل مع إيران وشيعة الداخل سيجلب لها غضب السنة وتحدي المتطرفين منهم، وبالمقابل فإن ترك إيران تواصل نجاحاتها سيشجع شيعة المملكة على التمرد، وكلا الأمرين يؤثران بعمق على الأمن الداخلي وعلى استقرار الأسرة الحاكمة.
ولذا فالسعودية تنتظر رد فعل قوي من أمريكا على التغول الإيراني، ولا تمانع من أن تعبر إسرائيل أراضيها لضرب إيران، بيد أن أمريكا فشلت في فهم هذا المشهد، وجعلت اهتمامها مركزاً على حل الصراع العربي الإسرائيلي وهي مسألة متأخرة في المشهد، وتأتي عقب إنهاء التهديد الإيراني، وهو ما فهمه السعوديون ولم تلتقطه أمريكا بعد، حتى أن المؤلف وصف الإدارة الحالية بأنها مضللة جداً، وتكرس أكثر وقتها لقضية ثانوية، بينما قلق السعودية الكبير هو من إيران وليس من إسرائيل، وكبح التهديد الإيراني سيحد من رغبة السعودية في تأسيس علاقات أمنية مع منافسي أمريكا في روسيا والصين.
ويتحسر المؤلف لاستحالة التطبيع السعودي مع إسرائيل؛ لأنه يهدد شرعية السعودية، وأي دفء سعودي تجاه إسرائيل سيكون غير شعبي بصورة عارمة، واعتبر الكاتب من دهاء الملك عبد الله أنه حول اهتمام العالم عن بلاده بعد أحداث سبتمبر(2001م) باتجاه مبادرة السلام التي اقترحها على الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في فبراير(2002م)، ورمى الجمرة على المائدة الإسرائيلية، وجعل العالم يتشاغل بها عن هجمات سبتمبر.
والمؤلف مخلص لبلاده حين يقدمها على أنها ليست العدو بل هي للشراكة أقرب، ولا يلام على ذلك، وعسى ألا يلام من يحب وطننا فيقول بأن خير مواجهة للتهديد تكون بإشاعة العدل مع الجميع، وتقديس الحق أياً كان صاحبه، والحفاظ على أسس قيام الدولة، وتمتين عوامل تماسك المجتمع.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرِّياض
ahmalassaf@
الأربعاء 08 منشهرِذيالقعدةالحرامعام 1435
03 سبتمبر 2014 م