دليل سعودي عن المحكم ووظيفته
قرأت كتابًا مهمًا عنوانه: وظيفة المحكم في الفقه الإسلامي: تعريف المحكم، وشروطه، وتكييف عمله، ووظيفته وآدابه، وموانع تعيينه وأسباب رده، وحالات عزله وتنحيه. إعداد أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد، أستاذ الفقه المقارن وعميد المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهو محكم محلي ودولي، وعليه فالكتاب زبدة ولباب فيه مختصر العلم والتطبيق، وحاصل البحث والنظر والنقاش والتدريب والعمل، ومع هذا لم يقنع المؤلف بذلك، وسيأتي بيان توضيحي لهذا الأمر.
يقع الكتاب الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام (1427) في (210) صفحات ويتكون من المقدمة ثمّ ستة فصول فالخاتمة وفهرس للمصادر والمراجع التي بلغت مئة وخمسة وعشرين مرجعًا، ويعقبها فهرس الموضوعات فسرد لأكثر من ثلاثين كتابًا وبحثًا للمؤلف، وهذا العدد ارتفع الآن والله ينفع ويبارك، وأكثرها متاح عبر نسخ إلكترونية شرعية، والحمدلله على تيسر نشر العلم، وسهولة الوصول إلى المحتوى النافع.
مهد المؤلف لموضوعه في المقدمة من خلال التعريف بالتحكيم وأنواعه وحكمه وتاريخه وتطوره، ثمّ تكييفه ومزاياه وعيوبه، وبحث الفصل الأول مسألة تعريف المحكم وتمييزه عن غيره، بينما استقل الثاني بدراسة شروط المحكم، وعن وظيفة المحكم كان الفصل الثالث. أما آداب المحكم فدرسها المؤلف في الفصل الرابع، ووقف في خامس الفصول عند موانع تعيين المحكم وأسباب رده، وبيّن في الفصل السادس أحكام عزل المحكم وتنحيه.
وبعد هذا الجهد العلمي وخلاصات الخبرة العملية، لم يقنع المؤلف بأن يكتفي بهذا القدر المضني، وإنما وجه الدعوة في خاتمة الكتاب إلى عامة الباحثين لدراسة الموضوع دراسة شمولية أو متخصصة؛ لما في ذلك من إثراء وإغناء وسدّ لأبواب متزايدة من الحاجة التي اقتضاها انجذاب الكثيرين نحو التحكيم، هذا أولًا. والعمل الثاني الذي صنعه المؤلف أن تولى بنفسه اختصار كتابه في كتاب صغير الحجم لتعليم المستعجل وتذكير الناسي، ويقع هذا الكتاب في (30) صفحة تحت عنوان: دليل المحكَّم، وفي آخره تطبيق عملي لإجراءات جلسة التحكيم.
إن التحكيم هو أحد ثلاثة سبل لإنهاء النزاعات والفصل في الخصومات وهي: التحكيم والقضاء والصلح، والتحكيم هو نزول طرفي النزاع برضاهما على رأي نظير لهما يثقان به. ويكون التحكيم بناء على نص ابتدائي في العقد، أو بناء على اتفاق لاحق بعد ظهور النزاع. والتحكيم أمانة توجب مخافة الله لما يترتب عليها من حقوق وآثار مادية ومعنوية، هذا غير ما فيه من صفة القضاء، ومرجعية العقد، ولكل واحد من الصفتين مسؤولية ثقيلة واجبة الصون والأداء بعدل وصدق.
وللتحكيم أنواع مكانية وموضوعية وعددية، وله مزايا من أجلّها النجاة من قضاء وأحكام تخالف الشريعة الإسلامية في بعض البلاد الأجنبية أو المستغربة. ومنها السرعة، وحفظ العلاقات الطيبة واستدامتها، والسرية، وحرية اختيار المحكم والزمان والمكان. ومن عيوبه تكاليفه المالية، وضعف الرقابة عليه، وتفويت فرص الاستئناف، وقد يكون لشخصية المحكم أثر حسن أو سيء بحسب ما لديه من خبرة وحكمة ومهنية.
كما أن المحكم يشابه القاضي في عمله وإن لم يمتلك مثل سلطته؛ ولذا فعلى المحكم حياطة وقار عمله، وعلى الأطراف الأخرى حفظ هيبة المحكم وتقديره. ومن التزامات المحكم المهمة أن يقتصر على موضع النزاع، وألّا يكون سببًا في التأخير، وأن يتبع الإجراءات المتفق عليها بين أطراف التحكيم أو المنصوص عليها في الأنظمة الرسمية، وأولى التزاماته تحري الموضوعية والإنصاف؛ فلأجلها صار إليه المتخاصمون.
ومن المهم حين اختيار المحكم استبعاد أي شخص له علاقة بطرفي النزاع سواء كانت العلاقة قرابة أو مصلحة أو خصومة، ويُستبعد أيّ محكم له رأي سابق بموضوع النزاع، أو كتب فيه لائحة دعوى أو جوابًا أو شهادة أو رأيًا. ويُبعد مَنْ طلب التحكيم في قضية بعينها، وهذا لا ينافي مشروعية التسجيل النظامي ضمن قوائم المحكمين فالتسجيل شأن عام وإجراء لابد منه. وإذا كان المحكم فردًا وجب التدقيق في شأنه، وأما إذا كانت هيئة تحكيم فلكل طرف ترشيح المحكم الذي يناسبه، ويبقى الشخص الأهم هو المحكم المرجح الذي يرأس الهيئة التحكيمية، ويدير جلسات التحكيم.
وبعد، فما أكمل ما يكتبه من جمع الله له بين المعرفة والممارسة، وما أحرانا بأن نطلب المزيد من قبل علماء العرب والمسلمين؛ كي تتعاظم قيمة المكتبة العربية والإسلامية، ويسمو محتواها، ولنقطع الطريق على أيّ مزايدة أو تلبيس يحاول به أصحابه الذين تولوا كبره التنغيص على ثقافتنا أو اختراق نسيج حضارتنا، وإنها لحضارة علمية راسخة متينة عريقة ذات أصول لا تبلى ولا تخلق، ومن ورد نهل واستقى وسقى.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الخميس 17 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443
20 من شهر يناير عام 2022م