فوائد منتقاة من فتح الباري
هذا كتاب حقيق بأن يقال فيه: كلّ الصيد في جوف الفرا، وجدير بأن تُشد عليه يد الضنانة، ويُشهر بين الشباب والناشئة لأسباب منها صعوبة قراءة الأصل على بعضنا، وسهولة رسوخ فوائده المرتبة المتوالية في الذهن المشغول والكليل، هذا غير ما فيه من قوة الربط بين أجيال المسلمين وتراثهم العلمي الكبير، إضافة إلى دفع الصائلة الهوجاء الباغية عن جناب الإمام البخاري وصحيحه، وعن ساحة الإمام ابن حجر وفتحه؛ فكثير من جمهرة الصائلين ليسوا أهلًا لخدمة الإمامين فضلًا عن نقدهما، وأكاد أن أجزم بأن عددًا غير قليل منهم لم يقرأ الصحيح، ولا يدري ماذا في الفتح، وسهام عدوانهم الأثيم تتجاوز الرجال والكتب إلى السنة الشريفة وصاحب الشريعة، والله لهم بالمرصاد.
أما عنوان الكتاب المعني فهو: الفوائد المنتقاة من فتح الباري، انتقاء: محمد بن عبدالله العوشن، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1416=1996م) عن دار العاصمة للنشر والتوزيع، وتقع في (614) صفحة مكونة من مقدمة وترجمة لابن حجر ثمّ الفوائد المنتقاة من هدي الساري مقدمة فتح الباري وفيها ترجمة للإمام البخاري، وعقب ذلك تأتي الفوائد المنتقاة من كل مجلد تخطر ببهاء مجموعة في قسم خاص بها وعددها ثلاثة عشر قسمًا، وأخيرًا فهارس الأحاديث والآثار.
وقد مضى على طباعة الكتاب ربع قرن، وسمعت من الشيخ العوشن أنه سيصدر منه طبعة جديدة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا-إن لم يكن قد حدث فعلًا-؛ فهو كتاب غزير الفوائد، ماتع للقارئ والسامع، ومن دلائل ذلك أن بعض أكابر العلماء قرأه أو قُرأ عليه أكثر من مرة، مع أن هؤلاء العلماء يعرفون الفتح جيدًا، ونُقل لي إعجاب الشيخ القاضي الذكي صالح بن غصون بالكتاب وتكرار قراءته مع انشغاله بالمصنفات الفقهية القديمة. وحينما استعار مني بعض الزملاء الكتاب فتنوا به، حتى يسر الله لبعضهم نسخة مهداة من هذا السفر على ندرة نسخه.
ذكر الشيخ العوشن في مقدمته أنه لم يحظ كتاب -بعد كتاب الله تعالى- بالعناية كما حظي به صحيح البخاري، إذ تتابع العشرات من علماء الملّة على هذا الكتاب العظيم شرحًا وتعليقًا واختصارًا، وعناية بالسند والمتن أو بهما معًا. ومع ذلك لم يشرح أحد الكتاب بما يستحقه حتى روى ابن خلدون عن أشياخه بأن شرح الصحيح دين على الأمة، ويشاء الله أن يُقضى هذا الدين على يد تلميذه النجيب أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852) بعد أن أمضى في شرحه ثلاثين عامًا، وما أعظم هذه الأمة التي تتواصى بميراث نبيها متجاوزة أطر الزمان والمكان وحدود المذهبية الفقهية.
وكما وفق ابن حجر في الانكباب على شرح الصحيح فقد هداه الله لحسن اختيار العنوان، وهو عنوان سبقه إليه الإمام ابن رجب الحنبلي دون أن يكمل العمل فيه. وحين تسامع الناس بنية ابن حجر للشروع في الشرح سارعوا إلى طلب نسخ مبكرة من الكتاب والسؤال الملحف عنه سواء من قبل الولاة والأمراء أو من العلماء. وبعد أن امتن الله على المصنف بالانتهاء من الكتاب أقام وليمة بهذه المناسبة في غرة رجب سنة (842) حضرها جمع من ذوي الشأن، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن جودة إتقان ابن حجر في شرحه لم يجب الإمام الشوكاني من دعاه لشرح الصحيح قائلًا: لا هجرة بعد الفتح!
ثمّ أفصح الشيخ العوشن عن طريقته التي تتلخص في أنه قرأ مجلدات فتح الباري كاملة في أوقات بهيجة ماتعة، ودوّن الفوائد دون أن يطرأ على باله جمعها في كتاب، ثمّ بدا له نشر تلك الفوائد فأكب على هذا السفر النفيس بقراءة ثانية، ولم يقتصر على نوع معين من الفوائد المختارة، وإنما حرص على تنويعها، والإحالة لمواضعها، وألّا تكون طويلة، دفعًا للملل الذي لا أظنه يرد في قراءة شيء مرتبط بأحاديث النبي الأكرم وسنته الشريفة عليه الصلاة والسلام.
واعتمد المنتقي على الطبعة التي علّق عليها الشيخ عبدالعزيز بن باز، ولهذه لتعليقات مزايا منها أنها قليلة العدد إذ تزيد عن مئة وثلاثين تعليقًا فقط مع ضخامة حجم الكتاب، وكلّ التعليقات قصيرة بسطر أو سطرين دون إخلال وإنما تفي بالمقصود بيانه بلا إطالة، وهي جميعها مغلفة بأدب جم وخلق رفيع حينما يتعقب الإمام ابن باز سلفه المؤلف الإمام ابن حجر، وتلك هي أخلاق العلماء أو هكذا يجب أن تكون.
فيا أيها الفتى المبارك الشهم، ويا أيتها الفتاة الموفقة الشَّموس، إذا أردت أن تتغرغر بالحلاوة فدونك هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي انصرفت نحو مجلدات كثيرة وكبيرة من المكتبة العربية والإسلامية فاختصرتها بأمانة ورشاقة ونصح، وسوف تجد من جنس كتابنا هذا إخوة له في فنون شتى، ولربما أن يعينك الله فتقرأ الأصل ولو بعد حين، فلنعم المورد والمنهل العذب الذي لا يكدّره شيء، والكمال عزيز، والنقص مستولٍ على جملة البشر. ويتبع لهذه الأمنية أخرى على كبار القراء والمثقفين بأن يقربوا تلك الأمهات من الكتب لغيرهم، والأجر على الله.
ويا أيها القارئ البصير الواعي، دع عنك ما يقوله بعض المتعصبين ضيقي النظر والنفس تجاه اجتهادات وهفوات وقعت من رموز علمية كبرى في عصور سادت فيها معتقدات وأقوال، فأولئك الأعلام من علماء أهل السنة والجماعة وإن وافقت بعض آرائهم فرقًا أخرى والله غفور رحيم. وإذا تركت هؤلاء فالإعراض عن الطعانين المسعورين المأجورين أولى، فهم خواء من العلم في الغالب، خلو من الأدب في المجمل، ولا يتشجع الواحد منهم لنشر كلمة نقد واحدة تجاه عالم أو كتاب يتبع حوزة أو معبدًا أو كنيسة أو كنيسًا، وإنما إفكهم وما يفترون مقصور على أتباع السنة المحمدية، وإن لم يكن لهم في الدنيا محاسب، فيوم الحساب عنهم ليس ببعيد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 16 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443
20 من شهر ديسمبر عام 2021م