إدارة وتربية

لنذكر الراحلين بدعوة

لنذكر الراحلين بدعوة

الموت حقيقة أكيدة، وقدر آت لا محالة، وهو كأس سوف يشرب منه الجميع، ولن ينجو منه أحد؛ حتى لو تمنى بعض مدمني الكؤوس الموت للموت أو أن يكتشف علماء الأرض علاجًا له، وهو ما لم ولن يكون ولو اجتمع عليه الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرًا. وما أسعد الراحل الذي يخلّف عملًا صالحًا باقيًا من علم أو عمل أو صدقة أو ولد صالح يدعو له. وإن من خير ما يبقيه الأموات طلبة أوفياء، أو رفقة صالحة تدعو لهم ولا تنساهم من البر والصلة، ولهذا سعى الأذكياء للاستكثار من إخوة صالحين وأصدقاء أتقياء؛ فالأخلاء بعضهم لبعض عدو إلّا المتقين.

ولا يغيب عن بالي أسماء راحلين من أصناف الناس كافة حسب علاقتي بهم من قرابة وصداقة وجوار وزمالة، ولا أحذف أرقام هواتفهم البتة، ولربما أني سألت عن آبائهم وبنيهم بين آونة وأخرى. ومن بين أولئك الراحلين أناس غادروا الحياة الدنيا في شبابهم ولا أقول مبكرًا لأنه قضاء سابق وكتاب محتوم، وأسأل الله أن يرحم الجميع، ويعوّض أولئك الفرط أحسن المقاعد في جنان عدن عند مليك عظيم مقتدر.

أما الذي حفزني للكتابة فمقطع شجي آسر وردني لزميلي ماجد إبان غربته في كندا يتحدث فيه عن الوطن والأهل والصحب، وهو الذي التحق عقب الجامعة بجهاز عسكري، ثمّ ابتعث للدراسة، وهناك شعر بألم، فقاد سيارته بنفسه إلى المستشفى، بيد أنه لم يعد بها إذ فارق الحياة مباشرة داخل إحدى غرف الفحص. ولم أعلم عن وفاته إلّا عقب عامين أو أكثر، وكنت حينها على باب طائرة مع زميل عزيز قبيل موسم الحج الميمون، والله يتقبل له الدعاء.

ثمّ إني أتذكر صاحبي معيض النشيط بصمت، الرفيق الهادئ السمح، وقد ذهب للمشاركة في مؤتمر علمي بجنوب إفريقيا متأخرًا عن مجموعته بيوم لأجل تنفيذ مصلحة عامة، وركب الطائرة من دبي، لكنه لم ينزل في جوهانسبرج أو كيب تاون إلّا جسدًا بلا روح، وبعد أسبوع عاد جثمانه، واحتشد الزملاء للصلاة عليه ودفنه، وعقب ذلك تنادى أحبابه الخلّص لبناء مسجد باسمه وهو ماكان، والله يعلي به درجاته.

كما تذكرت عبدالرحمن العالم بتخصصه إذا تكلم فيه، البديع في ظرفه ساعة اللهو، والله يجعل مصابه الجسدي ومصابه الآخر تكفيرًا له ورفعة لدرجاته. ولا تغيب عن بالي صورة زميلين كلاهما يحمل اسم محمد، وكلاهما كان في نفسيهما شيء عليّ بسبب مواقف فهموها على غير وجهها؛ فالأول تلاشى كل ما في نفسه قبل وفاته بمدة يسيرة حينما رأى مني ما يكذب ظنونه، وجاءت وفاته على إثر حادث شنيع وقع لسيارة زميله وهو معه بعد أن صدمهما متهور من الخلف بعنف، فمات محمد وأصيب الزميل الآخر بالشلل شفاه الله وعافاه، وبعد هبّة بحثية من الزملاء عثروا على جثة محمد في ثلاجة أحد المشافي لأنه لم يكن يحمل أوراقًا ثبوتية، وكنت حينها خارج الرياض، وبعد عودتي وقفت على قبره مصليًا صلاة الجنازة، وداعيًا له بالرحمة والغفران.

وربما يود القارئ معرفة حكاية محمد الثاني، وهو زميل قديم غضب مني لأني دخلت وأقفلت الباب بينما قدم هو من بعيد فأسرع وارتطم بالباب وليس لي ذنب في ذلك ولا تعمّد، ثمّ قال لي كلمة عتاب في موضوع آخر وأجبته بمنطق فاقتنع، وفيما بعد صلحت علاقتنا لدفاعي عنه في بعض الأحوال. ثم إنه بعد تخرجه في كلية عسكرية عمل في منطقة بعيدة، ورأى ذات يوم أنه يقرأ سورة “ألهاكم التكاثر” فقال له عابر شهير: احزم حقائب الرحيل! وما هي إلّا أسابيع أو شهور حتى طحنت شاحنة ضخمة سيارته بمن فيها، رحمه الله، وضاعف حسناته.

ومنهم حمد الشاب الذي نشأ في طاعة الله، وصرف عمره في الدعوة إلى الخير والقرآن، ثمّ هجم عليه مرض السرطان ولم يمهله حتى صرعه مبقيًا أطفالًا صغارًا، والله يتقبل منه ويتجاوز عنه، ومع ذكرى حمد سميه الآخر الذي وجد ميتًا وحيدًا في شقته دون أن تفكّ رموز مماته. وفيهم عبدالله الذي أجرى جراحة في ظهره فتوفي بخطأ طبي رحمه الله وغفر له، وضياء الذي تخرج في معهد للحاسب الآلي، فأقام له رفاقه حفلة مسائية لعبوا خلالها مباراة في الكرة الطائرة، وتألق فيها وهو الشاب الطويل بهيّ المنظر واللون والبسمة، لكنه سقط أمامهم، وفاضت روحه لبارئها.

ولا زلت أرى صورة ذلكم الشاب الباكستاني الذي يكثر من الدعاء والابتهال، ثمّ صلى المغرب بجواري، وقمت عن المكان بعد الصلاة مباشرة للتوسيع على رجل مسنٍّ يجاورني من الجهة الأخرى، فوثب الشاب وتعجل بأداء السنة في مكان شطره من موضعي الذي تركته، وحين سجد لم يرفع رأسه غفر الله له وتغمده برحمته. وبما أننا في سيرة أهل الباكستان فقد عمل في مسجد أعرفه عامل باكستاني اسمه تورخان، وحين هم بفتح الأبواب لصلاة العصر سقط مغشيًا عليه ومات، وحزنت غاية الحزن لأني كنت حينها خارج المملكة ولم أستطع الصلاة عليه، جلله الله بعفوه ومرضاته.

كذلك لي جار اسمه عبدالرحمن ذهب بزوجته لمكان عملها البعيد عن الرياض ومعهما طفلان صغيران، فوقع لهم حادث سير فارق الحياة بعده مباشرة، وقد كان خدومًا ذا مبادرات حسنة رحمه الله. وذات مرة سافرنا إلى مكة لأداء العمرة فاستأذن أحد أعمدة رحلتنا كي نأخذ معنا صديقه عادل إلى مكة فقط، وهناك يلتحق بأصحابه، فأوصلناه معنا وفي مكة افترقنا. وبعد رمضان بلغني خبر وفاته وحده في حادث وهو عائد من رحلة مع أصحابه راجعوا خلالها سورة الكهف وتفسيرها، فذهبت للصلاة على شاب ذي سبعة عشر ربيعًا لا أعرفه إلّا في طريق سفر، وكان مسجد الراجحي القديم ممتلئًا مع أن الجنازة وحيدة، ومثلها المقبرة التي حضر إليها أشياخ كبار، وسقط جانب القبر من تزاحم الناس عليه حتى نقلوا الميت إلى قبر آخر، ووالد الفتى ذاهل في المقبرة ليس من هول المصاب فقط؛ بل من كثرة الناس.

وفي القائمة أحمد وخالد وهما زميلا دراسة وأحدهما ابن عم بعيد، وكلاهما سحقت السيارات شبابه؛ فالأول خرج من بيته مغضبًا لترتطم بسيارته سيارة أخرى وكان الارتطام شديدًا فمات الشاب من فوره مخلفًا زوجة وولدًا أو ولدين، أما الثاني فسافر مستعجلًا دون فحص سلامة مركبته وإطاراتها، فتقلّبت به ومات داخلها عليهما رحمة الله، وكم أهلكت الطرق والسيارات من أعمار وأناس. ومن هذه الذكرى تأتي أخرى لرجل عزيز حميد السجايا تزوج أرملة أحدهما، وبعد سنوات ذهب إلى مخيمه في البر، وما أن وصل هناك حتى وافاه أجله المحتوم وهو في منتصف العمر.

اللهم اغفر لهم وارحمهم ووالديهم، واحفظ عقبهم وآلهم واصلح لهم شؤونهم، وتقبّل من الراحلين أحسن الذي عملوا أو عمل لهم، وتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعمّ بهذا الدعاء المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات منذ بدء الخليقة إلى منتهاها ممن عرفنا أو لم نعرف. والله يسخر لنا عقب الرحيل من ينشر الحسنة ويستر السيئة، ويدعو لنا كثيرًا كثيرًا في الخلوة والجلوة؛ فلعمركم إن سكان القبور ليحتاجون الدعوة الصالحة، والحسنة والأجر من عمل أو قول، والاستغفار والمسامحة، ومن البخل منعهم، ومن المروءة منحهم، ومن حسن العهد ديمومة تعاهدهم بما يحتاجونه في أحقاب الغربة والانفراد تحت أطباق الثرى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 29 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

04 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)