شريعة وقانون عرض كتاب

رفع الحرج في شريعتنا

رفع الحرج في شريعتنا

دخلت إلى مكتبة صغيرة في بلدة قصية قبل ثلاثين عامًا تقريبًا، فوجدت نسخة من هذا الكتاب ولفت نظري عنوانه وموضوعه واسم مؤلفه، فاشتريته حينها وقرأته من فوري لارتباط محتواه مع قراءتي آنذاك. ثمّ عدت إلى نسخة حديثة الطباعة جميلة الإخراج، وعنوان هذا الكتاب: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ضوابطه وتطبيقاته، تأليف: أ.د.صالح بن عبدالله بن حميد، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1437) مكونة من (475) صفحة تشتمل على شكر وتقدير والمقدمة فأربعة أبواب وخاتمة وثبت بالمصادر التي تناهز المئتين ثمّ فهرس الموضوعات، علمًا أن معالي المؤلف هو إمام الحرم المكي وخطيبه منذ عام (1404).

أتى الباب الأول للحديث عن رفع الحرج معناه وأدلته، وفيه فصلان، أما عنوان الباب الثاني فهو مظاهر التخفيف في الأحكام وأنواعه، ويحتوي على ثلاثة فصول. وجاء الباب الثالث بثمانية فصول تحت عنوان أسباب التخفيف، وكان آخر الأبواب رابعها بعنوان رفع الحرج والأدلة الشرعية ويشتمل على ستة فصول. ولم تكن الخاتمة تلخيصًا للبحث أو سردًا لنتائجه، وإنما سبكت من نسيج البحث بدراستها للعلاقة بين الأجر والمشقة، وهو موضوع ظاهر الارتباط بالحرج ورفعه.

ابتدأ الكتاب بداية مزجت بين البر والعاطفة، إذ أزجى المؤلف الشكر لسماحة والده العالم والقاضي الأجلّ الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد (1329-1402)، الذي حثه على تحصيل العلم وتابعه في بناء هذا البحث بخاصة. ثمّ شكر المؤلف شيخه العالم العميق د.أحمد فهمي أبو سنة (1909-2003م)، ولم ينس الثناء على جامعته الفتية جامعة أم القرى، وعلى كليته العريقة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، ووصف الجامعة بالفتوة لا يناقض وصف الكلية التابعة لها بالعراقة؛ ذلك أن الكلية هي أول مؤسسة سعودية رسمية في التعليم العالي فتحت أبوابها عام (1369) فيما أذكر، وسبق افتتاحها تأسيس أول جامعة في المملكة عام (1377).

عقب ذلك عرف المؤلف الحرج بعد معاناة لخلو المصنفات من تعريف اصطلاحي له، ومعناه لديه: “كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالًا أو مآلًا”، مع التنبيه إلى أن أي مشقة معارضة بما هو أشد منها مما يتعلق بحقوق الله والمصالح العامة فإنها لا تصبح حرجًا شرعيًا، كما يُستثنى المشقة اللاحقة بالإنسان نتيجة لتعلّق حق غيره به. وقد أزال الشيخ اللبس حين جزم بأن حال الضرورة والاضطرار في إطلاق الشرع أشد من حال الحرج الذي ينحصر مجاله في المحتاج والحاجات فقط، وسرد الباحث أدلة رفع الحرج من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة سواء كانت عامة أو لأحوال مخصوصة، فمنها ومن نظائرها تستفاد القطعية بأصل رفع الحرج.

ثم بحث التخفيف ومظاهره وذكر أن التخفيف يكون في الأحكام الأصلية والعبادات من فرائض ونوافل، وفي غير العبادات جعل الشارع الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار التحريم، وأقام التعامل بين الناس على أصل الإباحة، أما العقوبات الزاجرة فشرعت رحمة بالمجتمع والفرد مع ترتيب الكفارات والتوبة للتيسير. وعرج المؤلف على الرخص وأقسامها وأحكامها، وهو موضوع مهم مثل جميع موضوعات الكتاب التي خاض فيها أقوام بين إفراط متشدد وتفريط متساهل، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. وبيّن المؤلف المواضع التي رفع الله فيها الإصر عن هذه الأمة خلافًا لمن سبقها من أمم، وأنهى هذا الباب ببيان أنواع التخفيف.

واستكمل بعد ذلك شرح أسباب التخفيف عبر ثمانية فصول درست الحاجة العامة والخاصة، والسفر وأحكامه، والمرض ومنه أعذار النساء، والنسيان، والخطأ بأنواعه وضوابطه، والجهل مع توضيح متى يُعذر به الإنسان، وخلاصة رأيه أن الجهل الذي يعفى عنه هو ما يتعذر الاحتراز منه في العادة، ولا يصح في دار الإسلام أيّ احتجاج بالجهل فيما يخصّ أصول الدين وضرورياته والمحرمات المشهورة لأن لها حكم الشيوع والذيوع الذي يسقط الاعتذار بالجهل.

كذلك أضاف ضمن فصول الباب السابق دراسة الإكراه مع بسط الكلام فيه وبيان آثاره، ومن أحكام البحث بطلان تصرفات المستكره القولية مطلقًا من إقرار وإنشاء حتى لو لم تكن تقبل الفسح، ومنها حرمة إقدام المستكره على القتل. وأخيرًا وقف المؤلف مع عموم البلوى وهو من فرائد هذه الرسالة العلمية لخلو الكتب من توسع وإيضاح فيه، والضابط في عموم البلوى تحقق أمرين أو أحدهما: نزارة الشيء وقلته مثل يسير النجاسة، وكثرة الشيء وشيوعه وانتشاره فيشق الاحتراز منه وتعم به البلوى. ومع اجتهاد المؤلف فقد قرر الحاجة إلى مزيد العناية بهذا الموضوع، ولعلّ بعض الدارسين قد وفقوا إلى الكتابة الرصينة حوله.

وخصص فضيلة إمام الحرم وخطيبه الباب الرابع لسبر العلاقة بين رفع الحرج مع الأصول الأخرى مثل النص، والقياس، والاستحسان، والمصلحة، والعرف، والاحتياط، وأبان عن علاقة رفع الحرج بهذه الأصول. وفي حديثه عن المصلحة المرسلة بث نصيحة مشفقة خلاصتها أن قضية الاستصلاح والمصلحة المرسلة منفذ خطير، ربما يلج منه من لا يفقه في الشريعة؛ فيفسد من حيث أراد الإصلاح، ويوقع في الحرج بينما هو يستهدف التيسير.

وعندما أوضح الباحث علاقة رفع الحرج بالعرف انفتل لتجلية قاعدة “تغير الأحكام بتغير الأزمان” مبينًا ضوابط هذه القاعدة وما يعمل فيه العرف وما لا يعمل، ومن اللطيف أني قرأت قبل ربع قرن تقريبًا مقالة لرمز ثقافي سعودي كبير يبتهج فيها بأن الشيخ أهداه نسخة من كتابه هذا، علمًا أن مثقفنا هذا ممن خاض في القاعدة الآنفة وهو ليس من أهل الفن؛ وإنه لطريق وعر على غير الصابرين ذوي الجدية من أهله. ولُباب هذه المسألة أن القاعدة لا تعني تحكم الأعراف والعوائد بالنصوص الصريحة أبدًا، بل معناه أن بعض النصوص قواعد عامة يصبح تطبيقها حسب أحوال الناس، وبعضها مناط للحكم الشرعي يخضع للأعراف، وما سوى ذلك فيرجع للعادات مثل الأكل والشرب والتعامل، وفي النهاية فالاختلاف في الحكم لا يعني تبديل خطاب الشارع، وإنما اختلفت العادة التي يُبنى الحكم عليها فتغير الحكم.

أيضًا استغرق المؤلف جهوده المباركة لبيان مسألة الاحتياط إذ أنه من المباحث الغائبة عما كتب فيما سلف، وأذكر أني رأيت رسالة علمية مطبوعة عن هذا الموضوع، ونسيت خبرها اليوم وعسى أن أرجع لها بالقراءة والعرض قريبًا إذا وجدتها بين ركام من أخواتها لم يترك لهن الانشغال منظمًا! وختم الشيخ الكاتب دراسته البديعة بمسألة ارتباط الأجر بالمشقة مفرِّقًا بين المشقة المعتادة وغير المعتادة، وبين المشقة النابعة من طبيعة التكاليف الشرعية، وبين المشقة التي يجلبها المكلف لنفسه.

إن هذا البحث يُعدّ إسهامًا في نشر الدين وصدّ عوادي الجهل والظلم والبغي والكفر، وقد وفق الله مؤلفه لكتابته بمنهجية علمية مستكملة الأدوات والمناهج البحثية. ومن الضرورة بمكان أن يستوعب القارئ بأن رفع الحرج راجع إلى التوسط والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط؛ إذ أن الوسطية الشرعية الحقة هي منبع الكمالات. ومن الأهمية أن يعي المسلم بأن رفع الحرج ليس غاية بل وسيلة للعبودية وطاعة الرب سبحانه، وأنها مقصد شرعي بغيته الإصلاح في حدود ما رسم الشرع، ويصبُّ في تمام العبودية والخضوع للمولى الكريم عز وجل، وفي النهاية سيكون الجزاء الأوفى أمام عباد الله في الدنيا والآخرة ولا مفر، وعلى المرء أن يكون قدر استطاعته مسلمًا مستسلمًا، ومؤمنًا متبعًا، ومحسنًا ميممًا وجهه نحو خالقه العظيم.

فالحمدلله الذي رفع الحرج بهذا الدين، وبعث نبيه عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، فهو النبي الذي أوصى أمته آمرًا إياها بقوله: “يسروا ولا تعسروا”، وبقوله: “إنما بعثتم ميسرين”. والحمدلله الذي جعل في أهل العلم والحكمة من يتعمق في الاستقصاء والتحليل حتى يخرج بمنتج ثمين متين نفيس يحتوي على الحلول الشرعية غير الهزيلة، والمصاغة بلغة العصر، لتبرز الأحكام الشرعية في جميع شؤون الحياة بصيغة علمية واضحة متماشية مع أفهام المعاصرين؛ كي تنزل عقب ذلك إلى ميدان الحياة، وتغدو حاضرة متقدمة قوية في المجالس والدواوين ومكاتب رجال الدولة، وقاعات المحاكم والدرس، وفي الوزارات ودور الإفتاء ومراكز الأمن، فتظهر فيها صفة الحيوية، والإجابة عن جميع التساؤلات، وحل المشكلات كافة.

إنه لكتاب جدير بأن يقرأ ويتداول الحديث عنه والنقاش فيه وفي أمثاله، وعسى أن يصبح له مساحة من الوقت والجهد في برامج الشباب والشابات الذين يعتزون بدينهم ويغارون عليه ويعنيهم التزود من علومه ومفاهيمه وأسسه بلا تحريف ولا تأويل ولا تمييع ولا تضييق، وآمل أن تشرئب له أعناق أهل الركانة والأصالة من المثقفين والعلماء كما يفعلون مع آخرين وأخريات حين يعتلي معالي البروفيسور صالح بن حميد منبر الحرم المكي الشريف سواء بخطبة جمعة أسبوعية، أو في خطبة من خطب المواسم العظيمة المشهودة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 21 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

26 من شهر نوفمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)