دراسة عميقة في علم أصول الفقه
القفز إلى مضمون العلوم مباشرة دون المرور بمحطات ليس منها مناص مثل معرفة تاريخ العلم، ونبذ عن سير أعلامه الأوائل، وتعريف بالمصنفات الأولى فيه، من إشكالات القراءة سواء أكانت قراءة منهجية علمية أو حتى ثقافية عامة. ولربما أن هذه الوثبة المستعجلة في الطلب أو القراءة قد أصبحت سمة غالبة حتى ظهر الاستغراب على تعابير الوجوه حين يُقال لصاحب الاختصاص فضلًا عن غيره: هل استوعبت تاريخ علمك وتعريفاته ومصطلحاته وأعلامه وكتبه المرجعية قبل أن تخوض في مسائله ودقائقه؟
لذلك سررت كثيرًا بقراءة كتاب جامع كما يتضح من فهرسته ومباحثه وخاتمته، وهو في أصله رسالة دكتوراة، عنوانها: علم أصول الفقه من التدوين إلى نهاية القرن الرابع الهجري: دراسة تاريخية استقرائية تحليلية، تأليف: د.أحمد بن عبدالله بن محمد الضويحي، وصدر هذا الكتاب ضمن سلسلة الرسائل العلمية لعمادة البحث العلمي بجامعة الإمام عام (1427=2006م) ورقمه حسب الترتيب (62)، ويقع في جزئين بعدد صفحات بلغت (1355) صفحة، منها (690) صفحة للجزء الأول.
يتكون الكتاب من تقديم لعميد البحث العلمي فالمقدمة التعريفية بالموضوع وأهميته والدراسات السابقة فيه، ثمّ التمهيد الذي يخبر القارئ عن علم أصول الفقه، وتاريخه قبل التدوين، وبوادر الكتابة في علم الأصول، وبذلك يكون التمهيد تأريخًا لما قبل تاريخ هذا العلم الفخم الرفيع. ويأتي بعد ذلك الباب الأول في (250) صفحة تشتمل على أربعة فصول ذات مباحث عديدة، فالباب الثاني المكون من أربعة فصول أيضًا ولكن بصفحات أقل بقليل من عدد صفحات سابقه. وبعدهما يستفرد بالجزء الثاني الباب الثالث الطويل جدًا المشتمل على ثمانية فصول في (555) صفحة، فالخاتمة وثمانية فهارس أحدها للمراجع التي تجاوزت ثلاثمئة مرجع.
ومما يوجد ضمن محتويات الكتاب الثرية التعريج على هذا العلم في عصر النبوة وزمن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، ثم دراسة رسائل عظيمة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليها قامت كتب شهيرة مثل إعلام الموقعين لابن القيم. ومن الرسائل التي درسها الباحث تلك المتبادلة بين الإمامين مالك والليث؛ وكل الصيد في جوف الفرا. ومن الطبيعي جدًا أن يكون للإمام الشافعي وكتبه خاصة كتاب الرسالة حضور لافت سيطر على الباب الأول من الكتاب، وإنه لإمام جهبذ عبقري فتح الله عليه بهذا العلم وغيره.
كما استجلى الكتاب في مواضع عديدة علاقة علم الأصول مع علم المنطق، ومن المشتهر ذكاء الأصوليين، وقدرتهم على الحجاج والجدل والمناظرة. وفي هذا البحث الطويل بيان لأثر المذاهب الفقهية على علم أصول الفقه مع آثار المدارس العقدية عليه أيضًا، ولذا وقف المؤلف مع المذاهب الفقهية الأربعة وتأثيرها على علم الأصول، ثمّ استعرض مناهج التأليف فيه ومظاهر التطور الحادثة عليه، وطبق ذلك على عدة كتب مختارة من خلال دراسة تحليلية.
إن علم أصول الفقه لمن أجلّ العلوم وأسناها، وأزكى الفنون وأعلاها، لأنه يحوي قواعد الاستنباط وكلياته، وضوابط الاجتهاد وأدواته، ولذا فليس بكثير أن يكون الخوض في دراسة تاريخه أمرًا غير يسير، بل مركب صعب يستلزم الجهد والمشقة بسبب اعتماده على الاستقراء بكدّ العيون لأجل البحث في المظان وغير المظان أحيانًا، ويعقب استفراغ الطاقة البحثية دأب يضني الذهن في مسيرة التحليل والاستنتاج واختبار النتائج، وهو الأمر الذي تصدى له المؤلف الأصولي ووفق فيه، وكم هو جدير بكليات الشريعة وأقسام أصول الفقه أن توجه الدارسين فيها والدراسات لمثل هذا الكتاب.
وإن الأصول لفنٌّ عظيم باسق لا محيد لصاحبه من وثيق الارتباط بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ثمّ الصلة المتينة باللغة العربية والنهل منها دونما توقف؛ ولاريب أن يكون إمام هذا العلم الأول الشافعي عَلَمًا في العربية وموئلًا يأرز إليه الشعراء والأدباء واللغويون ناهيك عن الفقهاء والمفسرين. وبعد تلك العلوم النقلية السامية فلا مناص للأصولي من جودة التفكير، وحدة الذهن، وصحة المنطق، مع الإفادة من علوم القواعد الفقهية والخلاف والفروق وآداب الفتيا، وقبل ذلك وبعده ومعه سؤال الله التوفيق والهداية وزيادة الإيمان.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 19 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443
24 من شهر نوفمبر عام 2021م