أحمد المالك: حياة بين دروب الإنجاز!
كتابة الذكريات فن سهل ممتنع، وإذا كان المدون موثِّقاً، ويتمتع بمصداقية عالية، وأسلوب يجمع الجزالة مع العذوبة؛ فسوف يمتع قارئه وينفعه غالباً. وكتابة المذكرات حق للأجيال الحاضرة والقادمة على من سبقها، وكم هو جميل أن يمتزج التدوين مع العبر، خاصة حين تكون حياة صاحب الذكريات حافلة بالتنوع، والأحداث، والتجارب.
وأستعرض هنا سيرة ذاتية من هذا القبيل، عنوانها: حياتي بين دروب العلم والعمل، تأليف د.أحمد بن عبد الله المالك، صدرت طبعته الأولى عام (1437)، ويقع في (326) صفحة ، وطباعته أنيقة جداً، وعلى ورق صقيل فخم، ولا أفضل-كخيار شخصي- هذا النوع من الورق والطباعة؛ لأنه يتعب العين بلمعانه، ويجرح اليد بحدته، ويحول دون الكتابة الواضحة عليه بنعومته، فضلاً عن ارتفاع سعر الكتب التي تطبع بهذه الطريقة، ولم أعانِ من هذه الأخيرة بفضل الله؛ لأن الكتاب وصلني هدية من مؤلفه الكريم.
يتكون الكتاب من إهداء ثم مقدمة، يتبعها ثلاثة أبواب، تتضمن تسعة فصول، وعلى غلافه صورة حديثة جميلة للمؤلف محاطة بعلم المملكة، ولكل باب أو قسم لون خاص به؛ مما يزيد جاذبية مظهر الكتاب، وهي الجاذبية التي شاركت المحتوى سلاسته وطلاوته.ولكل فصل صورة واقعية معبرة عن محتواه، فضلاً عن امتلاء الكتاب بالصور التذكارية للمؤلف ومن ارتبط معه ضمن مسيرته الحافلة.
أهدى المالك كتابه إلى أمه رقية المزيني رحمها الله، وإلى زوجه وابنة عمه منيرة المالك؛ لمشاركتهما له في حياته المكافحة، وفي دروب العلم والعمل والحياة بصبر وتشجيع ودعاء، والحقيقة أن حياة المؤلف وإنجازاته الباهرة فيها من الرقي والنور ما لا يخفى؛ ولعله من التفاؤل بمعنى اسم هاتين المرأتين الكريمتين، وهذه فرصة لتنبيه الجيل الجديد إلى حسن تسمية الأولاد خاصة الإناث؛ حيث بلينا بأسماء لا طعم لها ولا رائحة ولا معنى! وإذا كانت الأسماء القديمة غير مرغوبة؛ ففي معاجم الأسماء مندوحة عن الأسماء الأجنبية أو الخالية من المعنى الجميل.
ثمّ ذكر د.أحمد المالك في مقدمة كتابه أنه كان يشعر بضرورة كتابة ذكرياته، وشجعه على ذلك تكرار طلب المحيطين به لتقييد مذكراته، مما جعله يشرع في الكتابة حتى أنهاها خلال ست سنوات، ثم رآها مطبوعة متداولة يُكتب عنها؛ والحمدلله. وقال الكاتب بأنه حرص على ذكر الإيجابيات وضرب صفحاً عن سلبيات العلاقات مع الناس؛ وهي سلبيات طبيعية بحكم الاحتكاك اليومي، وأراد من كتابه أن يقدم دروساً لأبنائه وأحفاده وأفراد أسرته، ولو أنه أضاف ولمن يقرأ الكتاب لكان حسناً؛ وهو مقتضى النية والحال غالباً.
وتحدث الكاتب في الباب الأول ذي اللون الأحمر عن مدينته الرس، وحب الديار شيمة يفتخر بها أهل الفضل، ولا تناقض بينها وبين حب الدولة؛ كما أنه لا تناقض بين حب الدولة وحب الأمة، وهذا أمر لا يماري فيه منصف؛ مع كثرة ما يتاجر به الفرقاء ضد بعضهم. ومما ورد في سياق الحديث عن الرس أنه لا يحب بقعة في العالم أكثر منها، ولو أنه استثنى مكة لقداستها لكان أليق، ومما بثه من شعور بأنه لا يجد في الرس الحديثة ذلك الشعور الذي غمره في بلدته القديمة، وهذه شكوى قلما تسلم منها بلدة أو محلة.
بعد ذلك انتقل د.المالك إلى أسرته وعائلته القريبة، وتعد أسرة المالك من نوابه الأسر القصيمية ومن أكثرها وجاهة، وهي أسرة ريادية ومنجبة، وقد بُهرت حينما قرأت قبل سنوات ليست قليلة سيرة عم المؤلف الشيخ حمد المالك رحمه الله، التي كتبها نجله خالد رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، وأهداني حفيد المترجَم عبد الإله المنصور نسخة منها مشكوراً.
ومما يتضح في سجل هذه الأسرة الكريمة الهمة العالية، والروح القيادية، والكرم والعطاء، والحضور الملحوظ في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام وفي مناصب مدنية وعسكرية، وأيضاً كثرة الأولاد ماشاء الله تبارك الله، فضلاً عن جميل التربية، وقوة التماسك الأسري، التي تظهر في الاجتماعات المشتركة في المزارع والمخيمات والاستراحات والمناسبات. وينتشر التعدد داخلها، وهو ماحمى الله زوجة المؤلف أم أسامة منه، وهي التي أصبحت المرجعية الإدارية الوحيدة لأبي أسامة بعد تقاعده كما يقول؛ زادهما الله ألفة.
ولا أدري لماذا لم يذكر المؤلف قصة وفاة والدته خلافاً لوالده الذي مات مبكراً رحمهما الله، وخلافاً لأخيه غير الشقيق محمد، الذي يتضح حب الكاتب له ولأولاده، وهذه الملحوظة متكررة وإن اختلف السياق، حيث غابت أشياء يرغب الناس في قراءتها والإفادة منها، وهي مسائل أسرية غير سرية، كطريقة تربيته لأولاده، وقصص ذكريات سعيدة أو أليمة، وإن كان الكتاب يذكر بعضاً منها كزواج المؤلف باللهجة المصرية، وقصة ميلاد أولاده، وحكاية التوأم واسم نادر، وغضب عم المؤلف حمد من تأخره في الإنجاب بعد أول ثلاثة أولاد، وربما أن د.المالك يريد جمع هذه الحكايات والعبر في كتاب آخر كما فعل جلال أمين في ثلاثيته.
بينما يختص الباب الثاني ذي اللون الأزرق بالدراسة فيما بين الكتاتيب والجامعات الأمريكية، والنتيجة التي يخرج بها القارئ أن الرجل مكافح وجاد، وليت أن الأجيال تقتدي بمثل هذه النماذج التي تحدت الصعاب الغليظة، ولا أشك لحظة بأن دعاء أم أحمد كان من أسرار نجاحه، وأن مواقف أم أسامة كانت من دوافع تميزه، ومع ذلك كله؛ فالجهد، والنصب، والسهر لبلوغ العلا، موصلات للمجد، وهو طريق واضح بيد أنه محفوف بترك المشتهيات وعصيان النفس، ومقاومة الكسل والراحة، ولا يقوى عليه كل الناس.
ودرس أحمد في الرس وجدة والطائف والظهران ومصر والرياض وأمريكا، ومن طرائف الدراسة أن حفل تخرجه من ابتدائية الرس كان له من الهيبة ما يرفعه إلى مصاف حفلات التخرج في الجامعة وما بعدها، وأن دراسته فيها تقديم وتأخير على غرابته إلا أنه يؤكد جدية المؤلف وإصراره، ومن العجائب أن صالح كامل كان يبيع المذكرات للطلاب قديماً وهو طالب معهم في الجامعة؛ فحس التجارة يسري مع دماء صالح كامل منذ القدم. ومن اللطائف أن المؤلف حينما سمع مذياع السيارة ظنه عفريتاً، وحوادث الاستغراب من المستجدات والمخترعات متكررة في كل عصر وحضارة، وهي سمة بشرية عامة، ومع الأسف أن بعض مثقفينا يتخذها حجة لتقريع بيئتنا المحلية؛ بينما في أوروبا لا يتهكم كاتب أوروبي على قدمائه لأنهم أنكروا الهاتف والمذياع وظنوهما خدعاً أو سحراً.
ومن غرائب دراسته انتساباً في جامعة الملك سعود، أنه كان متفوقاً خلال السنوات الأربعة، ودرس كل سنة وهو في مدينة مختلفة ما بين الطائف والكويت وأمريكا، وحين تفوق في مصر كانت جائزته ماكينة حلاقة! وضمن مسرد زملائه ترد أسماء عسكريين كانت أسماؤهم تتردد في نشرات أخبار الماضي كثيراً؛ كالسديس والمحيا والحماد وآل الشيخ وهنيدي والخليفة والشاعر الذي أصبح وزيراً للإعلام في فترة سابقة.
ومن قوة عزيمته وصدق إرادته أنه ابُتعث إلى أمريكا لدراسة الماجستير، فاستطاع أن يضم معها الدكتوراة دون أن يطلب تمديداً يذكر، وخلال خمس سنوات حصل على الشهادتين، وأصبح أول رجل من الرس يحصل على الدكتوراة، وفي سياق بعثته لأمريكا لم ينس شكر من كان لهم الفضل في البعثة وفي تسهيل مشواره فيها؛ علما أنه لم يعد للمملكة خلالها، ومن طلب العلا سهر وتغرب وانقطع. وسمّى من أصدقاء الدراسة وزير التربية الراحل د.محمد الرشيد رحمه الله، ود.عبد العزيز الدخيل الذي يبدو أنه وكيل وزارة المالية السابق، ود.عبد الله النافع أمين جامعة الملك سعود سابقاً، وبعد فراغه من الدراسة المضنية كافأ نفسه وعائلته برحلة عالمية لمدة ثلاثة أشهر، زار خلالها خمسة عشر بلداً؛ وفيها من الطرائف والفوائد ما لا تحصيه مقالة واحدة.
أما الباب الثالث الأخضر فيحكي رحلة العمل من سلاح الإشارة إلى مكتب الاستشارة، والفصل الأول خاص بعمله في وزارة الدفاع، وذكر من زملائه علي الحديثي الذي أصبح رئيساً لديوان ولي العهد في مرحلة مضت. وقد مثل د.المالك الوزارة لدى المؤسسات النفطية والمالية في الحكومة؛ مما مهد لانتقاله إليها لاحقاً بحكم تخصصه في الاقتصاد، ومن قصص المرحلة أنه ترجم بين باحث اقتصادي كبير وبين هيئة كبار العلماء إبان مناقشة رسالة علمية لعضوها الشيخ المنيع، ومن جلد الرجل أنه تعلم اللغة الفرنسية ليفهم همهمات اللجان الفرنسية إبان تعاقدات وزارة الدفاع معها، ومن مواقفه المشهودة إجبار الأمريكان على إشراك المملكة بأرباح المبالغ المالية التي تصرف للشركات الأمريكية كدفعة أولى ضمن عقود التسليح.
وجعل الكاتب الفصل الثاني لعمله في مؤسسة النقد مدة خمسة عشر عاماً بعد أن أحيل على التقاعد من العمل العسكري عام (1400) برتبة عميد، وخاض غمار الاقتصاد بنجاح لا يقل عن تجربته العسكرية، وبلغ فيها مرتبة نائب وزير، وخلفه عليها وزير المالية الحالي د. إبراهيم العساف قبل أن يسمى وزيراً للمال. وللمالك جهود مثمرة خلال عمله في مؤسسة النقد، منها سعودة القطاع، والتحرر من سيطرة الخبير الأجنبي، وتحفيز موظفي القطاع من خلال التدريب والتأمين وغيرها، وخلال أعوامه المالية مثل مؤسسة النقد في عضوية أو رئاسة عدة مؤسسات مالية.
ويحكي الفصل الثالث تطوراً طبيعياً في حياة أي رجل مهني، فهو عسكري، اقتصادي، ومارس أعمال الشراء والإدارة المالية، وعضوية مؤسسات كبرى، فمن الطبيعي جداً أن يستثمر سلة خبراته وعلاقاته في تقديم الاستشارات لكبار الشركات العالمية ورجال المال الذين يعملون في قطاعات مالية أو نفطية أو عسكرية أو تصنيعية، سواء بتعاقد شخصي معه، أو بعقد مع مكتبه الاستشاري.
والحقيقة أن معالي الدكتور أحمد المالك يشابه في جوانب من سيرته العملية الوطنية معالي الشيخ الوزير عبد الله الطريقي رحمه الله؛ وقد أتيح للأول أن يستمر في العمل الحكومي أربعين عاماً خلافاً للثاني، وسطر المالك سيرته بنفسه ولم يتركها لغيره الذي لن يوفيها حقها مهما بلغ حرصه.
وتمتاز السيرة بأنها مسبوكة بلغة جميلة راقية، وفي أسلوبها سلاسة تنفي الملالة، وسليمة من الأخطاء النحوية، وخالية من الإطراء التبجيلي لعلية القوم، والصور ضمنها كثيرة ومعبرة، وعليها سيما الصدق والنصح، وأجزم أن لدى المؤلف فرصة سانحة في جعل هذه السيرة أرضية ينطلق منها إلى مؤلف آخر يستعرض فيه تجربته التربوية والإدارية بعمق، وإلى مؤلف ثالث يبسط فيه مشاعره الإنسانية بتوسع، ويستعرض رحلاته الدولية بفوائدها، وأتمنى أن يفعل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض
الخميس 16 من شهرِ شوال عام 1437
21 من شهر يوليو عام 2016م