سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

العمر الذاهب من القراءة إلى الكتابة

العمر الذاهب من القراءة إلى الكتابة

هذا عنوان جذاب لافت يخطف الاهتمام، ويعود لكتاب جميل في فكرته ومحتواه هو: العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة، تأليف: د.عبدالرحمن بن حسن قائد. صدرت طبعته الأولى عام (1443=2021م) عن آفاق المعرفة، ويقع في (368) صفحة مطبوعة على ورق نباتي مريح، وتظهر على الغلاف الأمامي صورة للمازني فيها توقيعه الذي يرجع لشهر ديسمبر عام (1921م) أي قبل مئة عام. ويتكون الكتاب من شيء كالتقديم بيد أنه شيء لذيذ حافل، ثمّ قسم عن القراءة وشؤونها في (133) صفحة، وقسم عن الكتابة وشجونها عبر (174) صفحة.

وصف المؤلف في التقديم هذا الكتاب بأنه لذيذ وحلو؛ لأن الحديث عن القراءة حبيب إلى الناس وإن لم يكونوا قارئين، والقول في الكتابة شهي حتى وإن لم يكونوا كاتبين، فكيف إذا امتزج الأمران بحياة إنسان وتجاربه وخاصة أمره؟ وإن معرفة سرائر النفس وأحوالها لمحببة لدى القارئ وتشبع فضوله؛ ولذا راجت سوق السير الذاتية والغيرية. هذا غير بيان ملكة المازني الأدبية التي وسمت أسلوبه، وقاربت بين حديثه المنطوق والمكتوب، وجمعت له سمتي اللباقة والتدفق، وبرهنت على مهارته الكتابية الاستثنائية المشهود لها إذ لا يضطر إلى مسودة أو مراجعة. وقد عاش المازني مراحل حياته التي فصلها المؤلف في تقديمه دون أن يقطع صلته بالثقافة والأدب والترجمة، حتى لو هجر الكتب وعالمها زمنًا ثمّ قفل إليها.

والحقيقة أنه كتاب فيه سيرة ذاتية، وتاريخ ثقافي، وشيء من خبر الكتاب والقراءة والنشر والأدب والتأليف والترجمة، وهو الرابع بعد ثلاثة إخوة له سابقين عليه، وهم جميعًا من مبتكرات المؤلف لاستحياء تراث عمالقة مثل العقاد والزيات وشاكر، ولربما أن الخامس آتٍ في الطريق! ومن فضائل هؤلاء الإخوة الأربعة أن كل واحد منهم يحكي جانبًا من سيرة نموذج عربي رفيع كي لا نظلّ أسارى للأمثلة الأجنبية في القراءة والكتابة، ويصف كل كتاب طرفًا من حيواتهم الفكرية نحن بأمس الحاجة إليه سواء كنا من الخبراء أو من الشداة.

إضافة إلى ذلك فهذا الرابع جمع المتفرق من تراث المازني المتعلق بهذين الأمرين المتعانقين دون انفكاك-أعني القراءة والكتابة-. وبمثل هذا الكتاب يطول عمر إبراهيم بن عبدالقادر المازني الذي ولد يوم 19 من شهر أغسطس عام (1890م)، وتوفي بتاريخ 10 من شهر أغسطس سنة (1949م). وهي سيرة معرفية فاخرة ذات اعترافات لا ينقصها الصدق، بل هي مرآة كاشفة لروح صاحبها الصريحة المتضاحكة راضيًا وغاضبًا. أما عنوان الكتاب فهو التقاطة بارعة من د.عبدالرحمن لعبارة خطرت في رسالة بعثها قارئ غاضب للمازني، وفي هذا العنوان نفحة من عناوين المازني الساخرة.

وسوف أذكر بعض الفوائد الخاصة بالقراءة والكتابة وما إليهما، سواء كانت من قول المازني ورأيه، أو من مقول غيره والمنقول عنهم، على أمل أن يعود القارئ إلى هذا السفر النفيس لأني تصرفت ببعض العبارات لدواعي الاختصار تصرفًا يسيرًا:

  1. نشأ المازني على حب القراءة والكتاب وأصبح لا يستطيع النوم قبل أن يقرأ.
  2. لا أتخطى عتبة البيت إلا متأبطًا كتابًا، ولا تمضي عليّ ليلة إلّا طالعت في بعضها قليلًا أو كثيرًا.
  3. تسدُّ الكتب النقص في تجارب المرء.
  4. لا يكون المرء كاتبًا إلّا بعد أن يكون قارئًا.
  5. اختيار المازني للعناوين هو آخر ما يصنع، وأصعب ما يلقى، وأطول ما يفكر فيه.
  6. ينقم المازني على طريقة الاكتفاء بالقراءة: الاعتماد على الكتب فقط، والتسليم التام بكل ما فيها، والاستغناء بالقراءة عن تكوين فلسفة خاصة وآراء مستقلة، ورابعها القراءة العشوائية بلا منهج.
  7. إن المازني ممن يكتب المقالة في جلسة واحدة فلا يمسح القلم ولا يعيد النظر في جملة.
  8. اعرف لغتك أولًا، وادرس أدبها، ثم عالج بعد ذلك ما شئت من فنون الكتابة.
  9. بعد درس العربية لابد من دراسة الآداب الأخرى ولا سيما الغربية منها.
  10. لابد للشباب من التحصيل والمشقة فيه فلن يرقى أحد بغير سلم، ولن يبلغ إنسان الغاية بلا أداة.
  11. الملكة وحدها لا تكفي، والاستعداد بمجرده لا غناء له حتى تؤازره المعرفة الصحيحة والدرس الطويل والتحصيل الوافي.
  12. لا تنشغل بالرواية عن الآخرين فقط، ففي تصنيفك ما يدل على خصب القريحة وقوة الخيال.
  13. أغيّر منهجي في القراءة والكتابة كل بضع سنوات.
  14. تضم مكتبتي خليطًا متنافرًا من الكتب.
  15. الذي يعنيني وأنا أقرأ هو صحة الفهم وحسن الإدراك لا أن أكتب وأنشر.
  16. كنت أراجع الكتب أكثر مما أراجع عقلي؛ وهذا يعني أني كنت أنظر بعيون الآخرين وأفكر بعقولهم.
  17. بسبب انهماكي بالقراءة كانت شخصيتي مستسرّة والذي يتبدى هو اطلاعي فقط.
  18. لم أكن في شبابي أتلقى وقع الحياة مباشرة، بل عن طريق الكتب، فأصبحت مثل المنوم مغنطيسيًا.
  19. تعلمت ألا أكون أسير رأي أو كتاب فمؤدى هذا الأسر هو الإفلاس العقلي والعاطفي.
  20. العقل ليس رفوفًا تُصف عليها الكتب، وإنما الشأن في الهضم والفهم.
  21. حسب المرء من الكتب أثرها في نفسه.
  22. الكتب لا تغني عن حقيقة التجريب الشخصي.
  23. ما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة فلا يظهرها إلّا انتقال الأحوال به.
  24. حين صار نظري إلى الناس نظرًا إلى مادة تُدرس ترقيت إلى ما هو أرفع.
  25. يُخيل إليّ أني أعيش في معمل الحياة بما فيها من خير وشر، وجدّ ولهو.
  26. أتناول جميع ما يصادفني بالتحليل لاستخلص منه الحقائق وأقيسه وأقارنه بغيره من التجارب.
  27. عندما بعت كتبي وجدت نفسي! باع المازني كتبه مرتين وفي الكتاب تفصيل لذلك وشرح لعبارته.
  28. قراءة كتب النحو والصرف مهمة لأنها مذاهب تفكير لا مذاهب نحو.
  29. تقاس قيمة بعض الكتب بقدرة مؤلفيها على الاكتشاف.
  30. متى كان إخوان المرء إلّا أظلم الناس له، وأقلهم تقديرًا لمزاياه، وأشدهم عمىً عن فضائله وتجسيمًا لعيوبه!
  31. ليست المزية من القراءة أن يكون العقل مخزنًا، وإنما المزية أن يعود أقوى وأفطن.
  32. من حق سعة الاطلاع أن توسع الروح والجسد، وتفضي إلى التطامن والتواضع، وأن يشعر الإنسان بضآلته.
  33. كم من كتاب جليل لازمه الخمول.
  34. اسم الكاتب المعروف بالبراعة يبعث على الاطمئنان.
  35. مع ارتفاع السن، واتساع أفق النفس، ونضج العقل، واعتياد الأناة في النظر والحكم، لا يستجيد المرء ماكان يغالي به في حداثته.
  36. كثرة القراءة تشجع على الكسل العقلي، وتفتر نشاط الذهن.
  37. التفكير مرتبط بفن الكتابة.
  38. كثيرًا ما يدفعني إلى الكتابة إحساس غامض قوي تصعب مغالبته.
  39. أحب في الكتابة أن أرسل نفسي على سجيتها.
  40. الصحافة تفيد الكاتب مرونة في الأسلوب وسرعة في الكتابة.
  41. العجز عن الخروج بفائدة حتى من الغثّ السخيف أمر مؤسف.
  42. مجالسة العامة تنشط الذهن وتبتعثه من رقاده.
  43. ينبغي أن يبقى الأدب حرًا وإلّا فسد وتعفن.

وفي الكتاب فوائد أخرى، وقصص كثيرة لبعضها طرافة واعتراف صريح وكشف لدواخل النفس عجيب، مثل حواراته مع زوجته، وموقفه من الفلسفة والشعر والنقد وبعض الناس، واختفائه صبيحة زواجه في مكتبته، وأكثرها إمتاعًا على الإطلاق دخوله في حي شعبي للبحث عن كتاب يجلده لدى معمل وما جرى له من هروب ولهثان، وقصة ترجمة رواية، وحينما دعي إلى حفلة عشاء بجوار عجوز وفتاة هيفاء، ومن الطبيعي أن يتمنى الحديث مع الهيفاء لولا أن العجوز شغلته بالحوار حول كتبه وإعجاب أبنائها وبناتها بما يكتبه ويؤلفه، فتفاعل معها وانصرف عن الفتاة، وفي ختام الليلة عرف أن العجوز تظنه كاتبًا آخر غير المازني!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 16 من شهرِ ربيع الأول عام 1443

22 من شهر أكتوبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)