دورية الفول!
الفول طعمة لذيذة، لها فوائد صحية، وربما يكون لها عكس ذلك في أحوال أو مع سوء استخدام. وتُعدّ وجبة الفول أساسية في دول عربية مثل مصر العظيمة والسودان الأصيل، ويسمى هناك حبيب الشعب. وهو مهم في مناطق محلية مثل الحجاز الشريف وله مطاعم شهيرة في مكة والطائف، وقلما تخلو مائدة الإفطار الرمضاني منه، ولذا تطول صفوف المنتظرين أمامه بمجرد انكسار شمس العصر إلى قبيل الغروب، وفي غير رمضان يحضر بقوة في إفطار الصباح الباكر، وفي عشاء الليل الأنيس.
طبعًا لا أتحدث عن الفول من ناحية غذائية فلست من أهل الاختصاص، ولا أتكلّف الكتابة حول شهوة مجردة لأني سمعت عن الأحنف بن قيس قوله: أكره القوم حديثهم بطونهم وفروجهم! وروي لي عن السمين الحلبي رأيًا صارمًا خلاصة معناه أن الإنسان إذا كان همه ما يدخل إلى بطنه فقط؛ فلن تتجاوز قيمته في الغالب ما يخرج منه! وأشير هنا إلى أنه من المؤسف أن يضطر المرء للتحفظ في الرواية عن عرب ومسلمين خشية سوء فهم نبّاش، أو تهويش مفترٍ أفاك، ولو كان المنقول من الكلام عن يهودي أو ملحد لأمن الناقل من غضبة القوم ولومهم هداهم الله أو خلصنا من كدرهم.
المهم أني سمعت أو قرأت عن الفول قصصَا لطيفة، فيها فوائد عظيمة، أسوقها للانتفاع والعبرة، وكفي بها غاية لمن كان له قلب وأحسن الظنّ، وأما من سواهم فلا يلتفت إليه. أولها أخبرني عنها قريب يسكن في حي القدس شرق مدينة الرياض حين قال لي: لدينا دورية حي عمرها بضعة عشر عامًا، وهي متواصلة أسبوعيًا دون انقطاع أو تخلّف، والسبب يعود إلى اسمها الذي يعكس حقيقتها بوضوح وهو “دورية الفول” فلا مجال لإسراف وتكاثر ومباهاة، فهي أمور يبغضها الرب، ويمجها عقلاء الخلق، وتجلب الحزن للفقراء والعاجزين والمساكين وما أكثرهم.
أما ثاني القصص فأعلمني عنها جار يتابع ما أكتبه عن تاريخ مجلس الوزراء، وسير الوزراء، ولذا أنبأني أن سبعة وزراء سابقين -ليسوا كلهم أعضاء في مجلس الوزراء فمرتبة الوزير لا تعني العضوية بالضرورة- يجتمعون في مطعم فول شهير قريب من الحي الذي نسكنه، ويكون اجتماعهم في يوم ثابت على وجبة عشاء من الفول. وأساء الجار الظنّ بي لما سألني بعد مدة قائلًا: هل ذهبت إلى المطعم؟! فقلت له: أنا غير حريص على مقابلة كبير أو صغير، ذي منصب حالي أو سابق، دون أن يكون في اللقاء فائدة وغاية وإجابة عما أبحث عنه، مع تقديري لأصحاب المعالي المتحلقين حول صحون الفول وخبز التميس.
وهنا أصل إلى ثالث “دورية فول” وهي سبب هذه المقالة، ولا أستبعد أن تكون من أعظم جلسات الفول في التاريخ قاطبة، وهي شرف لو كان الفول يعقل فلن يتخلى عنها، وما أحرى باعة الفول ومحبيه أن يعلموا عنها ليفاخروا بها، ومن المؤكد أن لمثل هذه الدورية مثيلات حاضرة أو سالفة لا نعلم عنها في وادي النيل، والشام والهلال الخصيب، والمغرب العربي. وقد قرأت عن هذه الدورية في الزاوية التي يكتبها د.إبراهيم التركي في الجزيرة الثقافية التي تصدر كل جمعة وسبت، وهو ملحق كأنه كتاب، ومقالات الأديب اللغوي نجل الأديب اللغوي المربي تمتاز بالقصر والتكثيف، وإنها لمهارة يُغبط عليها.
خلاصة ما ذكره د.أبو يزن: أنه يجتمع مع رجلين من خاصته في ليلة معلومة من الأسبوع، وفي مكان معلوم، ولا يطيلون السهر، ولا يثقلون على أنفسهم بطعام أو شراب أو استعداد، ولا ينغصون جلستهم بثقيل من البشر أو الشؤون، وإنما هي أحاديث في الثقافة والكتب والقراءة فقط، وينفض سامرهم قبل منتصف الليل بعد شرب الشاي الذي يحلو بالصحبة والحديث الرائق، ولعمركم إنها لجلسة لذيذة لا تقدر بثمن لوقعها على الروح والنفس.
وهؤلاء الجمع الثلاثي هم: د.إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، وَ د.خالد بن سليمان الراجحي صاحب المكان، وَ د.فهد بن علي العليان المسؤول بحزم عن التنسيق، ولا أتصور أن من يعرفهم وقرأ شيئًا من كتبهم ومقالاتهم وتغريداتهم، وعرف طرفًا من أنشطتهم، فضلًا عن مجالستهم والإنصات لهم، يذهب به حدسه الظالم إلى فول شهي تتطاير أدخنته اللاهبة، وخبز حار تجذب رائحته الجائع من مسافة قصر فقط!
إنما كان من نتاج هذه الدورية العظيمة مشروع للعناية بالعربية اختصاره “عبق” المنحوت من ثلاث كلمات هي: العربية بدون قواعد؛ وذلك لتقريبها في المخاطبة والمكاتبة، وإزالة غربتها الحادثة؛ وإصلاح خلل الإعلام والتعليم والتربية، فهنيئًا لابنة عدنان الشريفة السامية بغيرة بنيها ولو اجتمعوا على صحن فول! وما أجدر المجتمعات العريقة بأن تحافظ على إرثها، وثقافتها، وتدافع عن أسباب وجودها المادية والمعنوية.
بقي من أسرار الفول أن أخبركم أن علاقتي به وبالأطعمة كلها علاقة بيضاء لا سلبية ولا إيجابية؛ بمعنى أني لا أحب ولا أعاف، والأمر يقوم عندي على التيسير والحمدلله. والأمر الأهم هو سؤال الله العلي القدير أن تكون جميع مجالسنا واجتماعاتنا مثل “دورية الفول” مستمرة بخير وعفوية، دون تكلف ولا ضياع مال أو وقت، والشأن الأكثر أهمية والأرقى والأخلد أن ينجم عنها مشروع أو أكثر يستفيد منه حي أو مدينة أو بلد أو أمة بأسرها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 16 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
22 من شهر أكتوبر عام 2021م
4 Comments
بارك الله بك ولك .. رقمك اضفته لدي لعمل عابر وكانت اضافة ثرية ورائعة لي
مقالات جدا مميزة فكر راقي اصبحت انتظر الحالة تبع الواتس يوميا بنهم وشوق .. سلاسة وفكر جميل ولغة قريبة للقلب والروح .. كم انا محضوضة بهذه الاضافة .. نشكر لك سعيك ووجودامثالك من الراقين والمميزين
شكرا لكم يا أستاذة، والله يبارك وينفع.
فعلاً إضافة ثرية ..كلنا ننتظر ..بشوق.
اعجبني المقال قراته وعلى ذكر الفول . استمعت قبل يومين في الكمبيوتر . عن مقابلة مع طبيب مصري اعتقد مقيم في امريكا . من ضمنه عن الاكل الصحي لمرضى ارتفاع السكر البقول ومنها ركز على الفول . وتمنى لو نعود الى ماكان اباؤنا ياكون الفول مه اضافة الطماطم وزيت الزيتون .وجبن القريش المصري . وفي اوربا يطلقون عليه {cottage cheese} يمكن اعداد الجبنة في البيت. وذكر بان ابائنا كان طعامهم اصح من طعامنا اليو م.فقد كان موضوعه {حوار مع اشهر طبيب واشهر مريض سكر }