زمن الدراسة الابتدائية وذكرياتها
يستعدّ ملايين الطلاب للعودة الحضورية إلى المدارس غدًا الأحد بعد غياب طويل بسببين أحدثهما الإجازة الصيفية التي ستغدو من الماضي في اتساعها وتباعد أيامها، وأقدمهما الدراسة عن بُعد تفاديًا لجائحة كورونا عجل الله بالخلاص منها على خير، وأعان الله الطلاب والمعلمين والبيوت والمجتمع على هذا القفول بعد انقطاع بمزيج دراسي عن قرب وبعد، وجعلها عودة حميدة مباركة موفقة سالمة من العثرات، وكتب للمخلصين الأجور، وأحسن عاقبة التعليم والتربية والتوجيه.
والحقيقة أن المرء وهو في وسط أيّ أحداث ومعمعتها قد لا يعتقد بأنه سيعود إليها بعد حين مستذكرًا تفاصيلها بمشاعر معتدلة خاصة إذا كان حاله حين وقوعها لا يخلو من تنغيص وتثاقل وامتعاض وما حولها من أوضاع. وإن من أجمل ذكريات الإنسان تلك الأيام التي قضاها في مدرسته الابتدائية، فهي أول تجربة دراسية، وتقع في زمن الصبا الغضّ والطفولة بما فيه من فطرة وسلامة صدر.
ومن الموافقات اللطيفة أن وصلتني آنفًا رسالة عبر الواتساب من شاب صغير عزيز ينقل لي سلام زميل درس معي في الابتدائية بعد أن التقاه خارج المملكة، ولو أني قابلت هذا الزميل الكريم لما عرفته ولما عرفني؛ لأن الصلة منقطعة بيننا منذ تركنا المدرسة. والشيء بالشيء يذكر إذ سبق لي الكتابة عن يومي الأول في المدرسة، وتتابع عليّ بعد ذلك المقال شريط سالف الأيام حتى ذهلت من تسلسل الحكايات التي يستحق بعضها السرد.
فمن ذكرياتي في الدراسة الابتدائية التي استمرت معي خلال سنوات التعليم العام جميعها، وهي أمر مشترك بين جيلنا ومن سبقهم، ولا يكاد أن يصدقه طلاب اليوم، ويفسرونه على أنه مثالية مصطنعة أو دعوة للجدية، وأتمنى أن يكون الحرص عليه من أهداف وزارات التعليم، وهو باختصار أني لم أغب في أيّ يوم دراسي ولو كان مطيرًا، أو باردًا، أو ذا غبار، وحتى لو أصبت بتعب أو مرض يمكن تحمله دون كلفة شديدة، وأما اليوم فمن ينافسني وجيلي من الطلبة في الحضور المنتظم بمجرد نزول قطرات من غيث، أو انخفاض درجة الحرارة، أو هبوب رياح تحمل ذرات من التراب؟
كما أني كنت متفوقًا في الفهم والدراسة دون أن يتولى أحد من الأسرة تدريسي أو أضطر إلى التعاقد مع معلم خصوصي، ولا أذكر أيّ مساعدة دراسية قدمت لي خلال سنوات التعليم العام سوى مرتين في المرحلة الابتدائية أولاهما كانت كتابية اكتشفها الأستاذ مباشرة، والأخرى تدريبًا على القراءة لدقائق معدودة، وفيما بعد قدمت “خدمات” تعليمية لأصحاب هاتين الخدمتين السابقتين ولغيرهما.
ومن قصص الاجتهاد أن أيّ “مفتش” أو “موجه” يزور المدرسة يؤتى بي إليه أو ترتب له زيارة إلى فصلنا، ويستحثني المعلم على التفاعل ويتهلل وجهه من إجاباتي الصائبة، وفيما بعد أسمع منهم كلمات إطراء وشكر. وفي إحدى المرات انبهر زائر عربي جاء يفحص استيعابنا في مادة العلوم للصف الخامس، وأقسم أن يكافأني بأيّ مبلغ يخرج من جيبه، وظلّ يبحث في المخبأ ويحفره حفرًا حتى استخرج ريالًا واحدًا وأعطانيه، وبعد نهاية الحصة الدراسية قال بعض الزملاء: ليتها كانت مئة ريال حتى يتوب ولا يزورنا! وفي المرحلة المتوسطة درس معي ابن “الموجه” وقال: والدي يذكرك دومًا، وعلّق زميل ظريف بأنه يستذكرني من جراء أثر الريال لا أكثر!
كذلك حرص أستاذنا المخلص أحمد بن محمد خليل ألّا أجيب عن تمارين مادة الرياضيات التي يكتبها ويطلب من الجميع التفاعل الشفهي معه ويستثني قائلًا: إلّا أحمد! وبالمناسبة فأنا أحب مادة الرياضيات ومن يتخصص بها، وسبق لي تدريس غير إنسان لهذه المادة في المرحلة المتوسطة والثانوية والجامعية إضافة إلى تدريس مادة الإحصاء لطلبة دكتوراه. ومن لطيف خبري في تعليم الرياضيات أن زميلًا على وشك التخرج طلب مني شرح دروس منها له لأنه نسي كلّ شيء يتعلق بهذه المادة الإجبارية للتخرج، وكنت حديث عهد بجامعة ففعلت معاونة له، ولي معه ومع الآخرين الذين “تتلمذوا” على يديّ قصص لطيفة، ولعلي أن أنشط لكتابة هذه الذكريات بعد أخذ الأمان الوثيق!
أيضًا من الذكريات أني أتعمد التأخر في الخروج إلى المدرسة حتى أصل مع انطلاقة طابور الصباح، وكان بعض الجيران يرسلون أطفالهم معي حتى يضبطوا الطريق ولي معهم طرائف؛ منها أن أحدهم أتقن المسار خلال أسبوعين وأصبح يعتمد على نفسه؛ بينما يحضر الثاني مبكرًا جدًا ولم ينفصل عني؛ حتى صرخت في وجهه مرة فما عاد يغلو في البكور! وفي مستهلّ العام الدراسي وقبل انتظام جدول الإذاعة يوكل إليّ إدارة الإذاعة المختصرة وتحريك صفوف الطلاب بتمارين رياضية ثمّ إصدار الأوامر لهم بالمسير صفًا صفًا مع أني أدخل المدرسة في آخر لحظة، وهي مهمة لا تطول غالبًا، وإن أنسى فلن أنسى تشجيع معلمي المرحلة الابتدائية لي في الكتابة.
وفي نهاية كلّ سنة أنال شهادة تقدير وبعضها محفوظ لديّ، وإذا حضر أبناء الجيران احتفال المدرسة في اليوم الختامي نهاية السنة يتعالى صفيرهم وتصفيقهم لابن حارتهم الحائز على جائزة. ولا أزال أتذكر فرحة جدّي سعود رحمة الله عليه (1324-1400) بما حصلت عليه من شهادات وجوائز مع أنها رمزية وكنت إذ ذاك في أول سنوات دراستي، ويرنّ في ذهني قول بعض النساء الكبيرات لوالدتي-شفاها الله وعافاها-: ولدك رفع رؤوسنا في المدرسة! وذاك زمان كان للتفوق فيه طعم مع ندرة الحفلات التي تقام لأجله، وفي زماننا تقام حفلة كلّ سنة ولو كان النجاح بالشفعة والشفاعة والشفيع الذي لا يُرد!
أما إحدى أعجب الذكريات زمن الدراسة الابتدائية فحدثت مرتين خلال سنة واحدة في الصف السادس، وقبل أن أسردها مختصرة أقسم أني وزميلي لم نقصر على أحد بشرح أو توضيح؛ ولم نكن معهم بخلاء أو أنانيين، ويبدو أن مواقفهم ترجع إلى الطبيعة البشرية وضعفها ونوازعها. ففي أول السنة التحق بمدرستنا شقيقان هما حسن وحسين، وكانا متفوقين فأظهر الزملاء فرحتهم بمقدمهما كي أُقصى أنا وزميلي فهد عن المراتب الأولى على الفصل! بيد أن بهجتهم أُجهضت مبكرًا لأن الشابين أكبر من أعمار فصلنا، ودلفا إلى المراهقة والانشغال بالترهات خارج المدرسة حتى نسيا التفوق والدراسة، ولا أدري ما صنع الله بهما.
ثمّ انتقل إلى مدرستنا في الفصل الثاني شقيقان ينتميان إلى إحدى دول الشام، وهما متفوقان ذكيان، أكبرهما اسمه رافي واسم الأصغر رأفت، ومع ذلك فمستواهما كان أقلّ من مستوى زميلي ومن مستواي حسبما استبان بعد مضي أسبوع على وجودهما، فاستحالت فرحة المبغضين إلى غصّة وهم يرونهما دوننا في الأداء وفي النتائج. ومن لطيف خبرهما أن أحد المعلمين دخل علينا في آخر السنة الدراسية، وسأل رافي بغضب: ما اسمك؟ وبعد دموع وذعر اعترف بأن اسمه “راضي” وأنه حرّفه إلى “رافي” ظنًا منه بأنه أحلى وغيرة من اسم رأفت -اسم راضي أجمل مئة مرة من رأفت- فنهره المعلّم على هذا التزوير وطلب حضور ولي أمره، ولا أذكر مصيرهما، وهل أكملوا بقية العام معنا أم لا.
يا لها من أيام جميلة بعد أن فصلت السنون بيننا وبينها، وكأني بمدير مدرسة ابن الأثير الابتدائية بعرعر وهو الخطيب المتحدث الأستاذ طالب بن عبود النجيدي ينفرد بنا بعد نجاحنا من الصف السادس، ويلقي كلمة وداعية تحفيزية وهو قائم لا يتردد ولا يتلعثم، وأشك أن يسمع مثلها طلبة الصف السادس هذه الأيام؛ ليس لندرة المديرين القادرين على براعة الحديث، وإنما لأن النظرة إلى طلاب الصف السادس اختلفت، وطريقة تفكيرهم ومحاور اهتمامهم تغيرت أيضًا، وأيًا يكن فالله يجعله عام إنجاز وعلم وفلاح للكافة؛ فإن التعليم أحد ركائز علو الدول ونجاح مشروعاتها، ورفاهية أهلها، هذا غير الفوز بالقوة والارتقاء والسعادة، وتحقيق مطلوب ربنا ورضوانه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 19 من شهرِ محرم عام 1443
28 من شهر أغسطس عام 2021م