قراءة وكتابة مواسم ومجتمع

الحج والكتابة والكاتب

الحج والكتابة والكاتب

بين الكتابة والسفر ترابط خاصة لدى بعض العلماء والكتّاب، ولذا نجد في سيرهم وأخبارهم ما يفيد بأنهم سافروا لأجل الكتابة إما خلوة، أو لأن الموضوع يتعلق بمكان له ذاكرة، أو بحثًا عن أجواء ملهمة أو أفضل، ولربما يكون ابتغاء بركة المكان سببًا في ذلك، ولهذا كتب العلامة الشيخ بكر أبو زيد آل غيهب مقدمات كثير من كتبه في مدينة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا عن قصد لشرف المكان. ولا يخلو الأمر من حالات معاكسة فالروائي المصري نجيب محفوظ لا يهوى السفر حتى أنه أرسل ابنته لتسلم جائزة نوبل بدلًا منه، وقرأت عن أديب عربي لا أجزم باسمه الآن أنه يقرأ حول البلدان ويضع صورها في مكتبته ويكتفي بذلك عن السفر!

وبما أننا على مقربة من موسم حج مختلف للعام الثاني على التوالي بسبب جائحة كورونا، وبناء على أعمال سابقة عن الكتابة والعيد، والكاتب ورمضان، رأيت أن أكمل هذه السلسلة التي تتصل بزمن فاضل، ومكان مقدس، وموسم ميمون، ومناسك ومشاعر ومهوى أفئدة المسلمين في أنحاء العالم فضلًا عن غيرهم ممن يراقب منبهرًا أو حاسدًا، ولا غرابة فمن الطبيعي أن تحسدنا الأمم المنافسة والمخاصمة والمعادية على اجتماعنا السنوي المتوالي عامًا إثر عام.

فمن أول ما يتبادر إلى الذهن حين الحديث عن الكتابة والحج تلك المصنفات الضخمة والمختصرة التي كتبها علماء وأدباء ورحالة ومستشرقون عن رحلتهم للحج، أو جمعها آخرون عن رحلات الحج، وهي كتب ماتعة للغاية شأن كتب السير الذاتية والرحلات، ويضاف إليها قداسة الغاية بالحج إلى بيت الله الحرام، مع تشويقات الجواسيس في مروياتهم التي يحكون فيها بطولات متخيلة مصنوعة أو حقيقية أو مبالغًا فيها، وسيبقى أدب رحلة الحج مفتوحًا حتى مع تطور الزمان ووسائل التدوين، وفي حج العام الماضي الاستثنائي كتب صحفي عربي عن ذلكم الموسم، وكم أتمنى لو تلتفت وزارة الحج والعمرة إلى هذه الزاوية لأنها توثيق لا مناص منه، وقيامنا به خير من تركه لغيرنا.

وبعيدًا عن الرحلات وعنائها وطرائفها وغرائبها، فإن رؤية البيت الحرام والكعبة، والمشي بين المشاعر، والتنقل مع الناس في وحدة ظاهرة وباطنة -في الغالب- تُعدّ من دوافع الإلهام الكبرى على الكتابة نثرًا وشعرًا، فإذا كان مجرد الخيال يعين على الكتابة كما في قصيدة أحمد شوقي عن الحج بعد تنصله من مرافقة الوفد الملكي فكيف بالمعاينة والمعايشة؟ وإنه لموقف جليل جعل الإعلامي المصري الشهير أحمد فراج- الذي قدم الشيخ الشعراوي للجمهور- يسقط مغشيًا عليه أمام الكعبة المشرفة، وإن قصص تأثيرات المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى والمشاعر على عالم الأدب لكثيرة، وتستحق الجمع والدراسة.

كما أن بركة الحرمين على أهلها وزوارها وقاصديها وعلى أمة الإسلام قاطبة لمن الموضوعات التي تفتح للكتّاب بابًا واسعًا من الكتابة والتأليف بعد التتبع والتحليل، وهو أمر جلي في سيرة هذين البلدين الأقدسين حينما انطلقت منهما الدعوة ثمّ جيوش الفاتحين والمعلمين والهداة، وحينما فزع إليهما الناس والعلماء هربًا من بطش أهل الضلالة، وعندما أصبحا يشحذان همة المسلمين على مقاومة البغي والاحتلال الإنجليزي والفرنسي حتى استأجر أولئك الكفرة ذمم مشايخ مفتونين أخلدوا إلى الأرض واتبعوا الهوى؛ كي يصدروا فتاوى على مقياس رغبة المحتلّ بما يميّع الفريضة ويصرف الناس عنها. وبركتها باقية حتى تصدّ الدجال في آخر الزمان، ويأرز إليها الإيمان ضمن متوالية من حسنات هذه الديار العظيمة.

أيضًا يجتمع في الحج أناس وحركة وشعائر ومواضع واختلافات كثيرة تكوّن مادة خصبة للكاتب الذي يجتهد بصناعة أفكاره وابتكارها مما يرى ويسمع، وفيما يلاحظه أو يتأمله، وكم هو منبع خصب للكتابة حين يركز الأديب على الأماكن وخطوط الحركة وما فيها من حكايات وأحداث وأصوات وغيرها، وحتى لا يذهب بنا العجب فقد كان مرور الخليل بن أحمد بالسوق واستماعه لطرق الحدادين سببًا في إنشاء علم العروض، وهو علم عربي غير مسبوق، ومن أرهف السمع، وأرجع البصر، وأعمل الفكر، فسيجد ويجدُ بعد أن يجتهد ويجدّ، وكم ترك الأول للآخر.

وفي أيام الحج، وأحكامه، ونفحاته، وآثار الديار المقدسة، وتاريخ العلماء ومدارس العلم فيها، وأخبار أمراء البلد الحرام وساكنيه، وغيرها من حوادث السنين، فرص للكتابة والتأليف. ومنها تاريخ الحرمين الشريفين في الإمامة والخطابة إما منذ فتح مكة وهو ما ظهر مطبوعًا في عدة مجلدات ألفها إمام الحرم وخطيبه الشيخ أ.د.صالح بن حميد، أو ما يخصّ العهد السعودي كما في كتابين ألفهما على انفراد الباحثان الأستاذان عبدالله بن سعيد الزهراني وعبدالله بن أحمد الغامدي.  ومثله تاريخ خطباء عرفة منذ حجة الوداع إلى يومنا، أو في العهد السعودي فقط، إضافة إلى الكعبة وكسوتها وتوسعة الحرمين وطرق الحج، وأعمال خدمة الحجيج منذ عرف الناس فضيلة السقاية والرفادة إلى يومنا، وسبق أن رأيت كتابًا عن طبقات حجّاب الكعبة للهاشمي، وآخر عن أمراء مكة لعارف عبدالغني، ومن استقصى فسيقع على أمثلة أخرى غيرها.

كذلك من الارتباط بين الحج والكتابة، أنه كما يحتاج الحاج إلى زاد واستعداد في العلم، والراحلة، والمال، والطعام، والرفقة، والتحصين الطبي، وبعض الإجراءات الرسمية، فكذلك الكاتب الذي يوقر نفسه وقراءه وتاريخ الثقافة والفكر في بلاده وأمته، جدير به ألّا يهجم على موضوع دون توافر حدٍّ مناسب من البصيرة، والمعرفة، والسؤال، حتى يؤدي عملًا مقبولًا ومبرورًا، وإذا كان الحاج يرجع كيوم ولدته أمه بعد أداء المناسك، فإن الكاتب يرجع بعد فراغه من جهده الثقافي إلى نشاط يعيد للروح والجسد شبابهما، وللقلب روحه وسعادته.

ومثل ما للحج من أركان لا يقوم ولا يقبل إلّا بها، وواجبات وسنن، فكذلك الكتابة وحريّ بأي كاتب ألّا يقتحم العقبة إلّا بحقها حتى لا يغدو عمله هباءً منثورًا أو جهادًا في غير عدو. وقبل الأركان والواجبات والسنن يستبق فرضية الحج وجود شروط يرتفع بانعدامها الوجوب، وإن عالم الكتابة ليستلزم على من أراد الدخول إليه القدر المعقول من الثقافة، والتفكير، والبحث، والأخلاق التي تنأى به عن عريض الدعوى، وقبيح السرقة، ومنحدر الاسترزاق، وفي النهاية ففي الكتابة مثل الحج مسؤولية ذاتية وفدية مقابل فعل المحظور.

يضاف إلى ذلك أن تقنيات الكتابة وأساليبها متنوعة مادامت أسس الكتابة متوافرة، وأركانها مرعية، وهو منهج نتعلمه من مناسك الحج بما فيها من سعة شرعية بعيدة عن تضييق الخناق أو انفلات العقال حتى أصبحت فتوى الرسول عليه الصلاة والسلام لعامة من سأله قوله الشريف : “افعل ولا حرج”. وإن مدارس الفقه المتنوعة القائمة على فهم وجيه من أهل العلم لدليل ثابت صحيح لدى علماء الحديث لتعلّم جماهير الكتّاب والنقاد هذه السعة كي لا تُقتل موهبة في بواكير عمرها، أو توأد بمجرد بزوغها، وعسى أن يرجم الجميع شياطين النفس والهوى، ونكتسب من الحج سمو المعنى، لنرتقي على بواعث الغيرة، ونبتعد عن غمط الآخرين وانتقاصهم.

هذه شذرات طرأت على البال، فالحج عبادة عظيمة تشتاق لها النفوس ونحن في شهورها الآن، ومكة والبقاع المقدسة جميعها لها في القلوب والعقول حضور لا يزحزحه شيء، والكتابة وما يتعلق بأبوابها موضوع له عناية واهتمام ممارسة وتدريبًا. وحين اقترب الموسم، انقطعت عن الكتابة عدّة أيام، فشاء الله أن تكون العودة من بوابة الحج، فاللهم اجعلنا من جموع الملبين الأتقياء المقبولين في عاجل أو آجل، واكتب لكل راغب صادق أجر موافاة الموسم الميمون وإن لم يكن بين الجموع ملبيًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 24 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

04 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الاديب احمد .لقد شوقتنا للحج والعمرة في مقالتك اليوم .سائلين العلي القدير ان يرزقنا ولكل من يرغب باداء هذه الفريضة المحببه للنفوس . ونلبي لبيك اللهم لبيك وان لم اكن بين الجموع ملبيا وانا اذرف دموعي شوقا . اللهم احفظ بلاد الحرمين حكاما واهلا . وكل المقيمين الخيرين فيها وانعم عليها بالسلم والامن والبركة والرخاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)