سير وأعلام

فوزان السابق بالخيل والخير

فوزان السابق بالخيل والخير

عدّد حسنات الشيخ فوزان بن سابق بن فوزان بن عثمان بن سابق الودعاني الدوسري (1268-1373= 1851م-1953) ولا تستكثرها عليه؛ فبعض الناس اختصهم الله بأن جعلهم كنز فرائد، ومجمع فضائل، ومثالًا سنيًا على الكمال البشري-ولا نزكي على الله أحدًا-، وقدوة إلى مثلها يُشار بأكثر من بنان، وبخصالها يصلح الاقتداء، فقد كان الشيخ زعيمًا في قوافل العقيلات، رأسًا في العمل الدبلوماسي، رفيق كتاب وقلم، ذو شهامة ونخوة وكرم، صاحب شبكة علاقات عابرة للحدود، ورجل دولة من أثمن الأصناف.

ففي بدايات حياة الشيخ فوزان السابق تلّقى العلم في مدينته بريدة ثمّ الرياض، واستزاد من الحواضر العلمية في العالم العربي والإسلامي، فحفظ القرآن الكريم، وأتقن علوم الشريعة، وعرف مقاصدها، وصارت له روابط علمية بأشياخ ومدارس إسلامية متنوعة. ومن فضل الله عليه أنه مع علاقاته الواسعة لم يفقد بوصلته الشرعية إرضاء لأحد، ولم يحد عمّا نشأ عليه حتى وهو في دهاليز العمل التجاري والسياسي، ولا أدلّ على ذلك من مواقفه تجاه أحداث وأخبار وكتب ورجال، وتحوله من مساند إلى مناهض والعكس لأنه يدور مع الحق حيثما دار، حتى ختم مسيرته العلمية قبيل وفاته بتأليف كتابه الوحيد في تقرير ثوابت عقدية.

ثمّ مارس الشيخ التجارة وخاض مغامراتها مع العقيلات وله في ذلك عزمات قوة وحذق جعلت قدره يزداد علوًا عند جماعته من العقيلات ولدى أهل بريدة ومع الملك عبدالعزيز فيما بعد، إذ حرص فوزان على وحدة الكلمة ومنع الشقاق، والحفاظ على المصالح، وحماية السمعة من أن يصيبها شوب سوء حتى لو خسر صرة من ذهب ليدفع عن نفسه وعن قومه معرّة التهمة بالسرقة، وليبقي في العرب مروءة الكرم والاستضافة، تلك المروءة التي أبقت على الجنس العربي وهو يقطع الصحراء بلا كثير زاد ولا سلاح.

وحين ولج الرجل إلى عالم السياسة في حقب مضطربة استطاع أن يكسب تقدير مندوبي دول الاحتلال الفرنسي والإنجليزي في الشام ويستفيد من تعاونهم دون أن ينصاع لهم أو يضير بني قومه ودينه، بل إن بعض الروايات تنسب الفضل إليه في إنقاذ بعض الرموز من بأس الطغاة والسفاحين. ومكنّه هذا النجاح الباهر في بيئة خانقة من تمثيل الملك عبدالعزيز في مصر إبان ذروة الامتعاض المصري من التطورات في الحجاز عام (1344)، وهو الأمر الذي أرجأ اعتراف القصر المصري بالشيخ فوزان لمدة عشر سنوات تقريبًا دون أن يظهر منه ضجر بقول أو فعل، بل تعامل برباطة جأش، وطول نفس، وتشييد جسور الثقة والمحبة رويدًا رويدًا.

فمن بصيرة الشيخ النافذة تداخله مع المجتمع الشامي والمصري، من خلال الكتب والمكتبات والمطابع واللقاءات العلمية والثقافية والرسمية، والمشاركة في المناسبات الوطنية والدينية، وبناء علاقات وثيقة مع رموز المجتمع، والتواصل مع المؤسسات الرسمية حتى لو أشاحت بوجهها عنه كما كان الحال في القاهرة أول الأمر، إضافة إلى كسب قلوب العامة بالصدقة، والإطعام، والمجلس المفتوح، والإعانة على إنهاء إجراءات تأشيرات الحج والعمرة، وإهداء الكتب والخيول، وملاطفة العامة والصغار.

ولم يكتف الشيخ المحنك بذلك؛ إذ كان صديقًا للجمعية الزراعية في مصر ملبيًا لدعواتها ومؤتمراتها، ومعاونًا لها بعيدًا عن الأطر الدبلوماسية، وصار عضوًا فاعلًا في مجتمع الخيول من خلال إسطبله الكبير، ومشاركاته بالسباقات حتى غدا هو وخيوله مثل اسمه الجميل تمامًا، فلهم دومًا فوز أو فوزان وربما أكثر، وهم وهو دومًا السابق في المضمار وفوق المنصة، وإن الخيل لكريمة نبيلة عريقة، تؤثر في ملّاكها بمنحهم المزيد من أخلاق الفرسان السامية، وطبائع النفوس الرفيعة.

كما رعى الشيخ خلال عمله في دمشق وفي القاهرة على وجه الخصوص، المصالح الخاصة بالحكومة أو المتعلقة بالمواطنين أكمل رعاية، فعلى يديه عقدت اتفاقيات وأبرمت صداقات، وأُصلحت خلافات، وأصبح الممثل الرسمي في مناسبات كثيرة سياسية ومجتمعية وعلمية، وعن طريقه ابتدأت علاقات دولية كثيرة مع المملكة، فهو بحقٍّ عصب السياسة الخارجية النابضة في تلك الحقبة، وربما عبرت من قنطرته وشائج دبلوماسية كثيرة بالتنسيق مع الملك ووزير الخارجية الأمير فيصل-الملك لاحقًا-. وله تاريخ في طباعة الأوراق والأختام والوثائق الرسمية لأجهزة الحكومة الداخلية والخارجية بأجمل ما يمكن، وطبع الكتب وتوزيعها على حساب الحكومة أو الملك أو حسابه الشخصي.

ولم يذخر الشيخ السابق جهدًا مهما طال أو تعاظم في سبيل مساعدة المواطنين من تجار، ومبتعثين، وطالبي علاج، وزوار، واسترجاع حقوقهم، وصون كرامتهم والأنفة من لحاق النقص بهم، وفوق ذلك حفظ لمن ضربوا في الأرض متاجرين إن بالشام أو مصر انتماءهم لأرضهم وبلادهم، مما سهل لهم الحصول على أوراق ثبوتية فيما بعد سافروا بها، وحالت دون ضياع مرجعياتهم، ولن ينسى تاريخ العمل الدبلوماسي الشيخ سابق وإن مضى على رحيله عقود وأكثر، وإذا ذكرت العلاقات السعودية المصرية فإن الشيخ فوزان مع نظيره العربي الكبير عبدالرحمن عزام باشا من الأسماء الراسخة في سجل هذه العلاقة.

كذلك أبى الشيخ العالم إلّا أن يكون نصيرًا للعلماء المضطهدين في بلادهم من حكوماتها أو من محتل آثم، واستطاع تدبير انتقال بعضهم إلى المملكة مع آخرين استقطبوا للتعليم في مدرسة البعثات. وسعى الدبلوماسي المثقف الحصيف إلى رسم صورة جميلة عن بلاده تتفوق على أيّ محاولة تشويه، وله حضور صحفي بارز في هذا الحقل، إضافة إلى غشيانه الواثق للمنتديات والندوات، حتى استطاع الشيخ السابق برزانته، وحكمته، وعلمه، إذابة رواسب الخلاف، وكسب المودة وتحصيل الألفة، وتفنيد الشبه والمبالغات، فاللهم اجعل روّادنا مثل صاحبنا ذي السبق إلى الفوز الأكيد.

وللشيخ تأثير كبير على عالم النفط في بلادنا، وتأثيره العظيم هذا جاء من أمرين بطريقة غير مباشرة، وهما من بركة العمل الصادق ونيته فيما نحسبه. فمنبع العمل الأول هو حرص الشيخ فوزان على مواطنيه، ولذا شمل بعطفه ومتابعته الطالب المبتعث في شبابه الغضّ عبدالله الحمود الطريقي، وساعده للدراسة الثانوية والجامعية ضمن البعثة الحكومية عسى أن يخدم دياره يومًا ما، وبعد سنوات لم يشهدها السابق أصبح الشيخ الطريقي أول وزير للنفط في المملكة، ولم يكن وزيرًا عابرًا حتى لو كان عمره الوزاري أزيد من عام واحد بقليل.

أما العمل الثاني فباعثه هو كرم الشيخ السابق، وتساميه عن المكاسب الآنية، ولعلّ الله عوضه بما يخدم البلاد وأهلها عقودًا وقرونًا على خير وصلاح وسعة بإذن الله. وتتلّخص القصة في إعجاب رجل أمريكي اسمه “تشارلز كراين” بأحد خيول إسطبل الشيخ فوزان، فوهبه له الشيخ دون مقابل مما جعل الأمريكي -خلافًا لنفسية الغرب المادية- يشعر بفضل الشيخ عليه، ويجتهد في محاولة رد معروفه ومكافأة إحسانه لأنه مفتون بالخيل إلى أقصى حد، ويحسن تقديرها، ولا يخفى عليه قيمتها المعنوية والمادية.

فنسق الشيخ زيارة “كراين” إلى جدة ومقابلة الملك عبدالعزيز، وربما يكون هذا أول اتصال بين الملك وإنسان من أمريكا بحضور المترجم “جورج أنطونيوس” مؤلف كتاب يقظة العرب، وكانت غاية الزيارة البحث عن الماء للتيسير على الحجاج، والحيلولة دون فقدان الماء في الطريق أو في المشاعر المقدسة. وبعد جولة من المفاوضات والبحث، قادت عمليات التنقيب والحفر من الجيولوجي “كارل تويتشل” إلى ظنّ جازم وافق الحقيقة فيما بعد، إذ أن الأرض السعودية تختزن في باطنها كميات مهولة من النفط، فتدفقت الآبار ومعها الأرزاق، والله يجعلها خيرات دائمة، مثمرة، مباركة، منجية في الدنيا والآخرة، وهي فضل من الله وتعويض عن الشيك المفتوح الذي رفض الشيخ فوزان أخذه مقابل خيله المُهدى للأمريكي.

إن رجلًا بهذه المواصفات ليعزّ على العمل الحكومي افتقاده، فلم يقبل الملك عبدالعزيز استعفاءه من المنصب مرارًا، وبعدما ألح الشيخ فوزان وافق الملك شريطة أن يكون البديل مرشحًا من قبل فوزان نفسه، فرشح الشيخ عبدالله بن إبراهيم الفضل خلفًا له، وسهل له المهمة بإيقافه على جميع ما يخص المفوضية. ومن تقدير الملك لرجل الدولة العالم الكريم الشيخ فوزان السابق أن وهبه مقر المفوضية السعودية في القاهرة لتكون منزلًا له، رافضًا خروجه منها بمقولته المحفوظة: تخرج المفوضية ولا يخرج فوزان!

وفي هذا النموذج الفريد يلفت نظرنا دقة الملك عبدالعزيز في انتقاء الرجال، وتركيزه على سمات الشخصية وقدراتها ومقدار قبولها في مجتمعها، فهي الأساس الذي بغيابه يمتنع إدخال أيّ احد مهما كان محبوبًا في دائرة مؤثرة، ويكفي لقياس خطورة منصب الشيخ فوزان أن نعلم بأن مكانة القاهرة آنذاك بالنسبة للرياض تشبه مكانة واشنطن اليوم، وبالتالي فلا يكون الممثل فيها إلّا من ذوي القدرات الفردية المتميزة، وهو ما أثبته مقام الشيخ الطويل الناجح في مصر.

ومن لطائف أخبار الشيخ فوزان أنه عندما رزق بابنه الوحيد محمد بعد أطفال كثر ماتوا وهم صغار راسله الملك عبدالعزيز قائلًا: سبحان من يحيي العظام وهي رميم؛ لأن الطفل ولد عام (1359=1939م) والشيخ يناهز التسعين من عمره حينذاك. وبعد خروج الشيخ من منظومة العمل الحكومي بالتقاعد سُمعت منه كلمة عجيبة إذ قال: “كنت وزيرًا وأنا اليوم سلطان” فما أعزّ الحرية وأعلى موضع المرء فيها، وهذه الكلمة رواها الأديب والمؤرخ خير الدين الزركلي الذي استقطبه فوزان للعمل في المفوضية، ولاريب أن الشيخ يحسن الاستقطاب، وممن عمل معه في مصر الشيخ إبراهيم السويل وزير الخارجية والزراعة ثمّ سفير المملكة في أمريكا.

كذلك من أخباره البهيّة كثرة الكتب التي طبعها أو كتبها بخطه الجميل أو أوقفها أو وهبها لأشخاص ومكتبات في بريدة وغيرها، وحثّه عددًا من الناس على الدراسة وطلب العلم مثل الشيخ زهير الشاويش، ومتابعته الفائقة لشؤون الحرمين والحج حسبما يكلفه به الملك عبدالعزيز. ومن بديع ما يُروى أن المفوضية ومقر إسطبل الشيخ كانا على قدر كبير من الفخامة والأبهة؛ فالرجل لا يحكي بمكانه عن نفسه فقط، وإنما عن بلاده، ومن هذا الباب أن حفلات المفوضية تميزت بحسن النظام، وكثرة المدعوين مع ارتفاع مناصبهم، وهو في ذلك ينظر بعقله وعينه إلى سمعة بلاده ومصلحتها، ويثني بصنيعه المتقن على أسرته العريقة وحسن تربيتها وإعدادها.

ثمّ إن الشيخ فوزان بعد أن ترك العمل الرسمي المهم عام (1367=1948م)، لم ينقطع عن التواصل مع الملك عبدالعزيز، وزاره قبيل تأديته للحج عام (1372) وكان هذا آخر لقاء بينهما، إذ توفي الملك عبدالعزيز، وبعد مدة يسيرة تبعه الشيخ فوزان الذي فارق الحياة عام (1373=1954م) وهو يصلي الليل كما اعتاد، فغسله وكفنه وصلى عليه الشيخ محمد حامد الفقي تنفيذًا لوصية الشيخ السابق القريب من العلم والعلماء.

هذه لمحات عاجلة عن حياة رجل باسق عاش قرنًا من الزمان بما فيه من أحداث كبرى وتغييرات إقليمية ودولية، وهو رجل تراكمت خبراته في مجالات كثيرة، وتتابعت أخباره الباهرة من قبل الناس على مختلف أصنافهم، وسيبقى فينا حيًا بسيرته العذبة، وثباته الظاهر على مبادئه ومقتضيات انتمائه لبلاده وأمته، وما أجدره بأن يكون حاضرًا على وجه الخصوص أمام العلماء والمثقفين والتجار والدبلوماسيين والساسة وأصحاب المجالس؛ لأنه وهب من نفسه خير ما يمكنه في أحواله جميعها، حتى أضحى في تاريخنا فوزان السابق بالخيل والخير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 09 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

19 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)