إدارة وتربية مواسم ومجتمع

موقف وأكثر في ممشى!

موقف وأكثر في ممشى!

المشي رياضة جميلة ومبهجة، وثقافة آخذة في الانتشار، ومن المطلوب عناية أمانات المدن وبلديات الأحياء بمضمار المشي من جميع النواحي، وتسهيل الخدمات والخيارات فيه وحوله. ومن البديع أن تكون أماكن المشي وسيلة آمنة لبلوغ مواضع في الحي وما جاوره. ومن الضرورة أن يلتزم المجال العام للممشى والسائرون فيه بحقّ الطريق الوارد في السنّة النبوية، من غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وخلال رمضان الفائت جعلت ساعة المشي اليومية قبل آذان المغرب في ممشى قريب، والغاية أن يكون المشي مع الصيام أعظم فائدة للجسد كما سمعت من أحد الأطباء. ولكن كان من الخطأ أني لم أسجل وزني قبل رمضان، وبالتالي فأنا لا أعرف إن كان الهدف قد تحقق أم لا، وما هي درجة النجاح فيه. ومن خلاصات الإدارة أنه من كبير الخلل أن يكون المرء -أو المؤسسة- هو المخطط والمنفذ والمقيّم في آن واحد، ويزداد خطر ذلك مع تجاهل أدوات القياس التي تظهر الحقيقة ولا تجامل.

المهم أني إبان المشي أردت الإفادة من حركة الناس وتفاعلاتهم، ورصدت بعضها وقيّدتها؛ ذلك أن الشارع خير معين على الكتابة لما فيه من صخب وحيوية وتنوع، وأذكر أن الشيخ علي الطنطاوي لم يجد فكرة ليكتبها ليلة العيد، فلما خرج من بيته نحو الشارع والسوق انثالت عليه الأفكار وتزاحمت بين يديه حتى عاد لمنزله وكتب المقالة المطلوبة منه لهذه المناسبة، وقرأت لغير واحد من الروائيين ما معناه أن الشارع منجم كبير لهم، وصدقوا فعيون الكاتب وآذانه تختلف عن عيون الآخرين وآذانهم، إضافة إلى أنه دائم التأمل والملاحظة.

ولي في المشي عوائد، فلا أركض كما يفعل بعض المشاة، ولا أخطو متماوتًا مثلما يصنع آخرون، وإنما أخطو بينَ بين. كما أني أخصّص بعض وقت المشي لورد المساء وبعض الأذكار. وحين أعبر من ممرات المشاة أسعى لإجبار السيارات على التوقف كي آخذ حقي النظامي في العبور مع أني لست في عجلة من أمري، وأحثّ الآخرين على فعل ذلك لترسيخ مبدأ أخذ الحق. وبالمقابل فعندما أقود سيارتي حول الممشى أتعمّد تشغيل أنوار الإضاءة التنبيهية وتخفيف السرعة قبل وصولي لمعابر المشاة حتى لو لم يكن فيها أحد، والغاية إشاعة ثقافة إعطاء الحقّ للغير، وعسى أن تفلح جهود كلّ من يعزّز هذا المبدأ في الممشى وسواه.

وفي ذات يوم مررت بجوار رجل ليس صغيرًا في السّن، وعلى وجهة ترتسم علامة استغراب وحزن، وكنت رأيته يتحدث مع رجل أشيب يصطحب طفلين قد يكونان من أحفاده أو صغار أبنائه، وهذا الأشيب يريد قطع الطريق بطفليه من غير الأماكن المخصصة لذلك، وفي هذا التصرف مخالفة للنظام، وتعريض الأطفال والسيارات الأخرى لخطر وقوع ما لا يُحمد؛ خاصة أن عددًا لا يستهان به من السيارات تقطع الطريق بلا سكينة دون نظر لوجود ممشى ومشاة، وتزداد شراسة بعض السائقين مع الصيام فينعدم صبرهم، ويختفي الرفق من دليل أدائهم؛ والرفق من أهم المطلوبات للقائد، وهو خير كله.

لذلك اقترح الرجل على هذا الذي يمسك بيدي أطفاله، أن يتحرك قليلًا شرقًا أو غربًا؛ حتى يجد المعبر القريب في انتظاره للانتقال الآمن السلس، وهذا الخيار من صالحه قبل أن يكون هو النظام، ومن صالح المجموع المحيط بمن فيهم هو وأطفاله. فلم ينصت الأشيب لرأي صاحبنا الذي ساقه بتودّد وتؤدة وإشفاق ظاهر، ويبدو لي من حركة يد الأشيب ومن تعابير وجه الرجل أن الجواب الذي سمعه من والد الطفلين تجاوز حدود اللباقة واللطف، مع أن الناصح همس له همسًا رقيقًا لم أسمعه وأنا قريب منهم.

ولأني كنت في جولتي الأخيرة فمن الطبيعي أن يكون المشي أكثر بطئًا، وبعد أن حاذيت الرجل الذي تحرك من مكان حديثه، أخبرني بواقعة شهدت طرفًا منها دون علم بمضمونها الأكيد. فقلت له: إنّ الذي حصل أمر طبيعي، فمن عادة أكثر الناس أنهم لا يحبون من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، حتى لو أن الذي يُقترح عليهم هو الأنفع لهم. فتعجب الرجل من هذه الطبيعة البشرية، بيد أن عجبه كان أكبر وهو يسمع مني بأن صنيعه من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

فأخبرته بأن هذه الشعيرة العظيمة تدخل في جميع الشؤون، وهي واجبة على كلّ أحد بحسب قدرته، بيده أو بلسانه أو بقلبه، وإنه لمن المحال والتعجيز قصرها على فئة، أو تركها بحجة الوقوع في الخطأ الذي هو سمة بني آدم دون استثناء. ثمّ أضفت بأن المحتسب في أزمنة ماضية وبلدان قديمة وصف يطلق على مندوب البلدية، والمراقب الصحي، وأن كلّ إنسان يؤدي عملًا فيفعل خيرًا أو يحول دون سوء ولو بكلمة واحدة، فهو بالضرورة خاصة إن أحسن النية داخل في جملة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. ولتعزيته قلت: إن على الواحد منّا أن يمتثل لنصيحة لقمان الحكيم الآمرة لابنه بفعل هذه الشعيرة والشريعة، والصبر على نتيجتها مما قد يصيبه؛ فذلك من عزم الأمور.

وفهم الرجل كلامي ووعاه جيّدًا بدليل تعقيبه الواضح، ومع فهمه ودعني والدهشة تستولي على محيّاه وكأنه يلوم نفسه على زمن مضى دون نيّة حتى يكون الفعل والترك والأمر والنهي والحثّ والصرف جميعه في موازين حسنات المرء التي سيحتاج إليها في موقف قادم ولا محالة. وإذا كان ذلك كذلك فيمكن للموفق أن يجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله ربّ العالمين خالصًا من الشريك بريئًا من الشّوب حتى وإن ناله شيء من بركة أعماله، فما أيسر جمع الحسنات وتكفير السيئات، والهداية مع التوفيق من الله الخبير البصير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 03 من شهرِ شوال عام 1442

15 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. جزاك الله خيرا . على مقالك القيم . لقد اخذت القارئ معك في مشيتك . والتمتع بها ورفدنا بما رايته . من حثك على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحبيبه الى اهل الفطر السليمة من الناس . مما لايقبل الشك الكاتب أحمد حفظه الله ورعاه مشي الساعة تفقد من الوزن حتى وان نسينا ان نوزن قبل المشئ . وفقك الله لما يحبه ويرضاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)