مواسم ومجتمع

زيارة تفيض بالمعاني

زيارة تفيض بالمعاني

أملج مدينة ساحلية عامرة تقع على وادي القرى، وأهلها فضلاء من بيوت وقبائل وأسر، ومن هذه المدينة الحوراء الجميلة، انطلقت سيارة فيها تاجر كبير مع ستّة فروع له، والمستهدف في الرحلة عشرة مشاريع، وأمضت في سيرها أربع ساعات عبر طريق آمن ممهد مخدوم من أم اللج إلى المدينة النبوية، وكانت مسيرتها هادئة بلا أمواج، تغشاها سكينة الغاية، وتحيط بها عظمة تجارتها التي تطلب المرابح من سوق ليس فيه مادة، ولا بيع أو شراء أو مساومة، وإنما هو سوق معنوي مليء بالمكارم والعطاء الذي لا يوقفه حد.

 في تلكم السيارة السباعية، ركب الشيخ محمود بن حامد السّيد ومعه ستّة من أنجاله مابين مكتهل وشاب، هم: أحمد، ومحمد، وعبدالله، وأسامة، وهانئ، وخالد، ثمّ انطلقوا من بلدتهم الوادعة بعد أداء صلاة الجمعة قبل الأخيرة من شهر شعبان عام (1442)، وساروا مع بعضهم ليكونوا أقرب في الحديث والمشاعر، وليجتمعوا في لقاء خاص دون شواغل أو تداخلات، وكأنّ الأب الحنون يسترجع أيامه الأولى مع بنيه وهم صبية صغار وشباب في أول العمر، ولكأنّه يؤكد على أنّ واجباته التربوية مستمرة، بيد أنها اليوم مع رجال يصادقهم، ويسمع منهم ويسمعوا منه.

لم يقصر الرجال المربون تجربتهم على من في السيارة فقط، وإنما استثمروا التقنية، لنقل الخبرة والخَبر والتجربة بخطواتها منذ خروجهم من المسجد الجامع في أملج، إلى حين وصولهم للمدينة وبيوتاتها، فاتخذوا من تطبيق سناب شات وسيلة لبثّ الفضائل بينهم، وتركيز الخيرية في الأسرة، وتوريث الخصال الحميدة للأجيال، وإنّ هذه التشاركية لتعلي من منزلة كلّ فرد مهما كان عمره أو جنسه، وتغرز في النفوس آثارًا جليلة تجعلها متشامخة على تعاقب الأيام والسنين، وتحفظ للأسرة عراقتها، وتديم عوائدها في البّر والمعروف.

وحين وصلت السيارة إلى مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، بدأ أهلها بتنفيذ مشروعهم من فوردهم دون إبطاء، وعمود المشروع يرتكز على زيارة عشرة بيوت، هي بيوت إخوة وأخوات، وأعمّام وعمّات، وبنات وأنساب، ومقصود الزيارات ينحصر في تثبيت الصلة، وتجديد العهد، وتأكيد الوداد، مع إشاعة الانشراح والبسمة، وتقديم هدايا متنوعة لأهل الدّور من رجال ونساء، وبعد الفراغ من كلّ زيارة يقف الرجال معًا لالتقاط صورة جماعية تذكارية، ويشدو الجميع بحداء بهيج رفيع، يكرر معاني هذا المشروع الكبير ويرسخها.

ثمّ ختم وفد أملج زيارته الميمونة يوم السبت بصلاة العشاء والوتر في المسجد النبوي الشريف، وقفلوا إلى بلدتهم عائدين، بعد أن جلبوا معهم الفرحة وأجواء العيد لمنازل وأسر وقلوب، وأجروا ماء الحياة في علاقات لم تذبل من قبل وإنما زادوها رواء ورِّيًا، وجدّدوا سمة أسرتهم المشهود لها بما شاع فيها من تواصل ومحبة ورحمة، وإن الحفاظ على الطيب في المنبت والمحتد لواجب تهون أمامه الصعاب كافة.

لذلك انهالت على جوالاتهم إبان عودتهم رسائل تفيض كلماتها بالصدق والنقاء، إذ أخبر كلّ بيت مزور الآخرين عن ضيوفهم الكرماء النبلاء، وما أحدثوه في زورتهم السريعة الناجحة من مباهج، ولا غرابة أن يصف بعضهم الشيخ محمود بأنه متاجر بالسعادة، ولا يلتفت لما يصرفه من مال أو وقت أو جهد، مادام في سبيل صلة الرحم، وتوثيق العُرى الأسرية، ولذلك يحلّ معه الأُنس حيثما حلّ.

وإذا أردنا أن نقف على ملامح أساسية من خلاصة هذه التجربة، فيمكن حصر أبرزها فيما يلي:

  • البوح بالمشاعر اللطيفة يعمقها ويقويها، وهذا البوح يكون بالكلام والفعال.
  • تخصيص إنسان بالزيارة يعظم المحبة بين طرفيها ولو كانت عن قرب، فكيف وهي من مدينة أخرى!
  • ما أجمل البرامج الإضافية، حتى لو كانت الأسرة مترابطة كثيرة اللقاءات والمناسبات المشتركة مثل آل الشيخ الكبير حامد.
  • سينتهي العمر، ويفنى المال، ويذهب التعب، ولن تبقى سوى الذكريات وصحائف الأعمال، والحكيم البصير من يملؤهما بما يرضي الرّب، ويجعل له لسان صدق في الآخرين.
  • ما أكمل أن يكون المرء قدوة للخير في محيطه وما وراء المحيط.
  • إن ترابط الأسر وتكاتفها يرجع بالمنافع على المجتمع والدولة وجميع شؤون الحياة.
  • سيكون أجر هذه الزيارة الروحية قبل الجسدية لمن اقترحها، ونفذها، وشكرها، وقلدها، وطورها، ونشرها.

 فيا أيّها الناس أينما كنتم، ما أجدر البيوت والأسر والقرابات، بأن ينتشر فيها خلق التراحم، والتغاضي، والتواصل، والتعاذر، وما أكرم وأعلى من يبادر إلى تجاوز أيّ ماضٍ أو شرخ، وينفتل عن وحل المحاسبة والاستقصاء، ويتحوّل مباشرة إلى الصنيع الحسن، الذي يتوافق مع تعاليم الدين، ويتماشى مع مقتضيات المروءة، ويجلّي نصاعة الأعراق، ويظهر حسن الأخلاق، ويبين ارتقاء الأذواق، والتسامي عن قيل وقال، وعن هفوة أو فلتة أو غلطة، فالأسرة هي الدرع الحصينة لأفرادها، ولمجتمعها، ولبلادها.

ومع الأسف، فإنّ التشاحن الأسري والتدابر بين الأهل، يعود في غالبه إلى أسباب تافهة، مثل خلاف بين أطفال، أو كلمة طائشة، أو تقديم أو تأخير، أو نسيان تهنئة، أو إغفال دعوة، أو ترك تعزية، أو طبقًا لأهواء النساء ذوات التقلّب يمنة ويسرة، ولو طلب الرجل من زوجته أن تفعل مع أخواتها وخالاتها-وهو آثم في طلبه- مثل ما توحي له تجاه إخوانه وبني عمه لثارث وهاجت ورفضت، وهي مصيبة في رفضها، و”مصيبة” من ناحية أخرى في تحريضها!

بينما يجري بعض المساكين المستعجلين في مسارات من غلواء الرأي، وخبال التصرف، وسوء العاقبة، بسببٍ لو رازه الواحد لوجده هباء منثورًا، ولو تحقّق وراءه لما عثر منه على أثر حقيقي، ولو فحصه لتيقن بأنه لا يستحق الالتفات فضلًا عن ضياع الإحسان والمروءة نتيجة له، وإنما هي جملة من مشاعر متشابكة متلاطمة خاطئة في الغالب، لا يسندها يقين ولا برهان، وليس خلفها شيء يخفى لا أعظم ولا أحقر، وما أضيع من دار في حلقة مفرغة بلا نهاية، وما أقلّ فائدة الضجيج بلا قيمة ولا مكسب.

أمّا الرّزين العاقل، الرّكين الكامل، المؤمن الحكيم، فيعلم أنّ الأصل يكمن في الارتقاء والنقاء، والعطاء والبهاء، والوصل والعذر، والتسامح والتواضع، والتشامخ عن الصغائر دون تشامخ على الآخرين، والتسامي والتعامي، وتقديم الحسنة وأختها، وإقصاء السيئة قبل أختها، وفعل المعروف وإن صغر، وتجاوز المنكر وإن قلّ، فربّ عمل صغير كريم، أو كلمة واحدة عذبة، تأتي بفوائد وبركات، وتدفع السوء والمضرات، ولمن نهض وبادر فضل السبق والابتداء، وأجر الاهتداء والاقتداء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 25 من شهرِ شعبان عام 1442

07 من شهر أبريل عام 2021م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. إن نشر هذه الثقافة الجميلة في البر والصلة فيه عظيم الاثر في ترابط الاسرة وتحسس المحتاج منهم والسؤال عن احوالهم ولا اعظم من غرسها في الابناء والاحفاد لينالوا رضا الرب والمحبة من الجميع

  2. إن نشر هذه الثقافة الجميلة في البر والصلة فيه عظيم الاثر في ترابط الاسرة وتحسس المحتاج منهم والسؤال عن احوالهم ولا اعظم من غرسها في الابناء والاحفاد لينالوا رضا الرب والمحبة من الجميع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)