الكاتب ورمضان
يتشارك الصيام والكتابة في كونهما من الأعمال البدنية المرتبطة مع الروح بصلة وثيقة؛ ذلك أنّ الصيام يريح الجسد من أثقاله، ويقضي على هجمة الشبع؛ فيصفو العقل، وتسمو الروح، وتشفّ النفوس عن مكنونها، وتعود الفطرة إلى موضعها، وتلك سانحة يمكن للكاتب أن يفيد منها في ابتداء عمل أو إكماله أو تحديثه؛ ما لم يكن من قوم يصيبهم شيء يشبه الشلل إذا انقطعوا عن الأكل والشرب، وإلّا فما أجمل قبسات الكتابة وفطنتها حينما ينجو المرء من البطنة والبشم، ولربما أصبحت بعض ليالي رمضان أزمنة ملائمة للسمر السردي والثقافي والأدبي، وما أجملها من قربة لله رب العالمين.
كما أن رمضان فرصة ثمينة لصناعة الأفكار التي يمكن أن تغدو إمدادًا للكاتب، وفي تراثنا الأدبي المنثور والمنظوم قدر لا بأس به من إيحاءات شهر رمضان، فمن ذلك التزام الكاتب المصري د.عبدالوهاب عزام إبان سفارته لبلاده في باكستان، بأن يكتب مقالة وقت الفجر من كلّ يوم رمضاني، ثمّ طبع مقالاته الثلاثين تلك في كتاب أسماه النفحات؛ مستثمرًا في عنوانه ومضمونه النفحات الربانية في رمضان. وجعل بعض الروائيين رمضان زمنًا لجميع الرواية أو لبعضها كما صنع إحسان عبدالقدوس، ونجيب محفوظ، وزيد دماج، ومحمد جبريل، حسبما أشار الكاتب منير عتيبة في مقالة مفصلة.
ويمكن لرمضان أن يصير مادة للكتابة سواء في انتظاره أو وداعه خلال ليلة الرؤية مثلما فعل الكاتب والروائي يحيى حقي، أو للتأمل فيه الذي نراه عند الشيخ علي الطنطاوي، أو لفضح الاحتلال الفرنسي ومناديله المحلية القذرة كما أجاد الشيخ المجاهد والكاتب البليغ محمد البشير الإبراهيمي الذي لم يكتف بالحديث عن الوعظ الرمضاني، وإنما أبان عبث الكافرين والمنافقين بهلال رمضان؛ إذ يثبّتونه وهم في جحورهم، أو يخفونه وهو في كبد السّماء! ولم يفوّت الرافعي على نفسه الفرصة الرمضانية ليحلّق بالكتابة عن فلسفة الصوم حتى ختم مداده بقوله: ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسَمَّاكَ: مدرسة الثلاثين يومًا.
أما الكاتب المعاصر فله تكرار ما كتب أوائله بعد معالجته من زاوية أخرى، أو ابتداع المعاني والصور التي لا تعسر على من أدمن القراءة، وأطال التأمل، وكرر النظر في اللغة ومعاجمها، وفي الكتب المتعلقة برمضان، ففي هذا الموسم خيرات كثيرة للناس أجمع، ومنها ما يخصّ الكاتب الذي يزين إنتاجه بالحديث عنه، سواء في نواحيه العقدية أو القلبية أو التعبدية الظاهرة، أو بالتدبر في آيات الكتاب العزيز، وشرح أحاديث السنة وأحوال السيرة، أو بمراجعة التاريخ الإسلامي الرمضاني، وهو تاريخ فيه النور والقوة؛ وكيف لا يكون كذلك والقرآن العزيز نزل في ليلة القدر، ومن أيامه الزاهرات يوم الفرقان في بدر، وساعة فتح مكة بعد الفتح المبين بالحديبية، وفيه أوقات مباركة مثل لحظة الفطر وساعة السحر، وليالي العشر، وتزدحم ضمنه شعب الإيمان المرتبطة بالمجتمع مثل الزكاة، والصدقة، والإطعام، والعفو، ويا باغي الخير الكتابي أقبل!
أيضًا يسع أيّ كاتب أن يعرج على وصف عادات الناس في رمضان، وموائدهم، وأحوالهم في الطاعات والتكافل والأخلاق، مع التصرفات الحسنة التي تجري من أعمال العلماء والدعاة والحفاظ والحكام والأثرياء في رمضان، إضافة لما يتعرض الشهر الكريم له من هزات عنيفة تحاول اقتلاع قداسته الثابتة حتى في نفوس العصاة على غيّهم، والأطفال دون سنّ التكليف، ويفتح هذا الباب قولًا عن مقاومة المسلمين لحركة الزيغ والانحراف المتصاعدة لتفريغ رمضان من روحانيته، وتمزيق شبكته الاجتماعية المتشعبة، وإن أمة تنتظر شهر امتناعها عن لذائذها بلهف لأمة حيّة وإن أحاط بها الوهن.
كذلك يمكن للكاتب أن يختبر الطقوس الكتابية التي تسطو عليه في غير رمضان، فإذا نجح في تجاوز عقبتها تيقن بأنها كانت إلى الوهم أقرب منها إلى الحقيقة، وكم من وهم نتخيّله في الحياة، أو سقف نضعه فيحول عن المسير أو الارتقاء، وهو هباء أو عهن منفوش تطير به نفخة من طفل صغير، أو نَفَس زَمِنٍ بصدر عليل؛ بيد أنّ تضخم صورة الوهم في الذهن تجعله كالغول المستحكم، مع أنه ضعيف الكيد، كليل الحيلة، ويا لبركة رمضان علينا حينما نكسر العوائد، ونذيب ما رسخ من الظنون الفاسدة.
وإن رمضان ليحيي في الكاتب الفطن الطبن ضرورة التفاعل مع الأزمنة الماضية أو الحاضرة أو المستقبلية؛ فهي زاد لا ينقطع للكاتب وأعماله، وتمنح سرده الإبداعي حيوية ومصداقية وربما إثارة، وكم في التاريخ من قصص وسير وعبر، ولا يخلو الزمن المعاصر من أحداث ومجريات وتقلبات، والمستقبل المنظور والبعيد تبدو عنه إشارات يمكن استشرافها وإن كان حالها الأكيد مسطورًا في الغيب المكنون، بيد أن السنن الإلهية لا تتخلّف، والمقدمات في الغالب تؤول إلى نتائج يمكن حسابها إن بدقة أو بتقريب، فهنيئًا للكتّاب شهر رمضان أكثر من مرّة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 24 من شهرِ شعبان عام 1442
06 من شهر أبريل عام 2021م
2 Comments
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل . لقد قرات المقال . الكاتب ورمضان واستفدت منه لاانني لست كاتبة. ولكن قارئة حيث انني سوف ازور طبيب الاسنان في رمضان و عندي مااتكلم به عن الصوم وفوائده. عندما يسالني
رمضان مبارك أولا، ولا بأس طهور إن شاء الله ثانيا.