مواسم ومجتمع

استمتع مع النسيان!

استمتع مع النسيان!

 تذاكرت وبعض الزملاء ظاهرة النسيان المحرج للمرء، فأورد بعضهم قصصًا غريبة وطريفة، وقال أحد رواتها إنها خففت من لوم نفسه حينما سمعها، وتيقن أنه من ذاكرته في نعمة يغبط عليها بعد أن كان يشكو تفويتها ونسيانها. ويمكن علاج النسيان بتكرار المحفوظ، وتقييده، واستخدام التطبيقات الإليكترونية، والإفادة من تجارب أصحاب الذاكرة القوية مثل أهلنا الأحبة من شنقيط عاصمة موريتانيا.

من القصص التي رويت لي أن رجلين تجاوزا الستين، ذهبا من سكنهما في حي الروضة شرق الرياض، إلى شارع بعيد مزدحم لشراء سلع بأرخص من أثمانها في الأسواق الفخمة والشوارع الغالية، وأوقفا سيارتهما، ثمّ عادا إليها قبيل المغرب، فوجدوها محشورة ملتصقة بما يجاورها ويحيط بها، فركب السائق، وظلّ الآخر خارجها، ينظر مدى قرب صاحبه وبعده عن السيارات الأخرى، ويوقف القادمة، ويبعد الناس، حتى خرجت السيارة كما لو انتزعت من صوف متلبد بماء، واستمر السائق في مشواره ناسيًا صاحبه ومعينه، ولم يعلم إلّا بعد العشاء بساعة مع اتصال رفيقه به معاتبًا، ولم تكن الهواتف النقالة متاحة آنذاك.

ومنها أن أستاذين في إحدى الجامعات خرجا من الكلية ظهرًا في أجواء الرياض الحارة صيفًا، وأحدهما كبير في السنّ والآخر أشبّ منه؛ فقال الثاني لشيخه: لعلكم أن تنتظروا هنا، وأذهب لإحضار سيارتي كي أوصلكم بها إلى موقفكم البعيد، فوافق الأستاذ الكبير وانتظر في مكانه، ويبدو أن الأستاذ الثاني انشغل فكره بموضوع ما، إضافة إلى أثر الشمس على رأسه، وما أن ركب سيارته، ووجد براد المكيف المنعش حتى نسى شيخه تمامًا؛ وليس هذا فحسب، بل مرّ من جواره وسلّم عليه بيده وبالمنبه، دون أن يفطن لوعده الذي تبخر مع أشعة الشمس!

أما ثالث حكاية فوقعت حين زار رجل وابنه شيخًا كبيرًا في منزله، وخطبا إليه ابنته الصغرى، وبعد نهاية الزيارة وعد الأب الخاطب ووالده بإجابتهم بعد عشرة أيام، ومضت المدة المضروبة وزادت دونما جواب؛ فاتصلت والدة الخاطب بأم المخطوبة مستفهمة عن رأيهم في الخطبة. فقالت أم العروس المفترضة لأهل الخاطب: الحقيقة لم يخبرنا أبو فلان عن زيارتكم ولا عن خطبتكم، وابنتي الأخيرة التي خطبتموها متزوجة منذ عامين، ومنجبة، ومبتعثة مع زوجها إلى خارج المملكة!

هذه الوقائع الثلاث أنقلها عن صديق واحد، خرّ لله ساجدًا حامدًا على البقية الباقية من ذاكرته، وعندما رويتها لبعض الصحب وجدت تفاعلهم البهيج حتى لو كنّا في موضع أو حال يصعب معه مثل هذا التفاعل. وفي جلسات جديدة أضاف آخرون حكايات نسيان مثل ما مضى، فمنها أن رجلًا دعي لمناسبة؛ فتوقف عند محطة وقود لتعبئة خزان سيارته، ونزل ابنه ذو السنوات العشر لشراء ماء من بقالة المحطة، لكنّ الأب مضى في حال سبيله، وذهب إلى المناسبة مستمتعًا بالحديث والطعام، ومستغربًا من كثرة الاتصالات التي تهجم على جواله من أرقام غريبة، وبعد تضجر وتأفف أجاب على أحدها ليسمع صوت صغيره باكيًا منتظرًا في المحطة!

كذلك منها ما رواه لي طالب علم إذ قال: كنّا في الحرم ننتظر درس الشيخ محمد بن عثيمين، وهو من أميز الدروس العلمية في الحرم المكي، ومن أكثرها جذبًا للمستمعين، المهم أن أحدهم شعر بصداع، واحتاج إلى دفتر يقيّد فيه الفوائد، فخرج قبل ابتداء الدرس، وذهب إلى صيدلية مجاورة، واشترى منها دواء الصداع، ثمّ انحدر إلى قرطاسية وأخذ منها دفترًا متوسط الحجم للفوائد، بيد أنه ترك الدواء عند القرطاسية ناسيًا، وفي طريقه للحرم توقف عند عربة تبيع فاكهة طازجة، واشترى منها كيلو عنب، وفرح به عائدًا لصحبه بعد أن ترك الدفتر عند بائع الفاكهة!

ومن أحرج ما سمعته أن رجلًا ثريًا بارًا، سافر مع والدته إلى جدّة لأداء العمرة، وركبا في الدرجة الأولى المريحة من جانب، والغالية من جانب آخر، وحينما اقتربت الرحلة من الميقات، ذهب الرجل إلى دورة المياه ليلبس الإحرام، ويبدو أنه أطال البقاء فيها، ونظر في وجهه وشكل ردائه كي يكون مناسبًا، وبعد أن استوثق من كمال هيئته العليا خرج فقابلته المضيفة التي ارتبكت حتى كاد أن يسقط ما في يديها، والرجل مندهش متعجب؛ حتى اكتشف أنه بلا إزار فرجع لدورة المياه عجلًا، وستر نفسه، وخرج يملؤه الخجل والحرج، وحين توقفت الطائرة نزل منها مستعجلًا لا يلوي على شيء!

مع ذلك؛ سيبقى النسيان نعمة حين ننسى الأحزان والمواقف السيئة، ونعمة عندما ننسى أيّ إحسان بذلناه للآخرين كي لا تفسده المنّة والأذى، ونعمة إذا لم ترسخ في أذهاننا بعض المعلومات ذات الأهمية المنخفضة؛ فتطرد الأكثر أهمية، ونعمة حينما ندخل كمًا هائلًا من الأفكار والأخبار والروايات في أدمغتنا، ثمّ نعالجها بما يعبر عن قناعتنا لا بما ينطق عن آراء الآخرين، فمن النعمة ألّا يلتصق بالذهن رأي معلّب، أو شبهة، أو قول مكذوب، أو شيّ مجانب للسداد والرشاد، والمهم أن تنسى يا صاحبي أو تتناسى مالا ينفعك، وما يؤلمك ولا يلهمك، ومالا يحسن بك حفظه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ شعبان عام 1442

01 من شهر أبريل عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)