كلوب هاوس والشهوة الباقية!
رُوي أنّ العلامة الشيخ حمد الجاسر تحدّث في مجلسه المنزلي العامر بالعلم والأدب والثقافة فأطال ثمّ اعتذر لسامعيه -الذين حضروا أصلًا لينهلوا من غزير معرفته- وقال لهم: إذا كبر الإنسان تموت فيه جميع الشهوات إلّا شهوة الحديث! وأذكر أني قرأت مرة جوابًا عن اللذائذ من قبل زعماء وأثرياء وأكابر، فكان جواب أكثرهم يدور حول الكلام، والاستماع، وترك مؤونة التحفظ في الجلسات الودية، وطرح التكلّف والاصطناع، ومن طريف ما سمعت أنّ الشيخ سليمان الراجحي قال لزواره من أساتذة الجامعات في مشروع دواجن الوطنية بالقصيم: استثمرت كلّ شيء في الدجاجة إلّا صوتها!
وفي عالم منصات التواصل الاجتماعي سيطرت مسالك جمّة، فمنها التفنّن في الكتابة وانتقاء المفردات والتراكيب والتعابير، وهذه ملكات موهوبة أو مكتسبة بيد أنها ليست عامة، كما استثمر آخرون قدراتهم في الظهور العلني للبروز سواء بجودة الحبكة، أو بجمال الصورة، أو بالجرأة المذموم منها والمحمود، وأفاد آخرون من كثرة ما لديهم من مواد ونقولات للتفاعل المزعج بها أحيانًا عبر تطبيقات التراسل الفوري، وغاب الصوت أو كاد بعد أن كانت له صولات وسطوة عبر غرف وقاعات ومنابر.
ثمّ ظهر خلال جائحة كورونا تطبيق الكلوب هاوس، الذي تقوم فكرته على غرف صوتية محدودة المقاعد؛ للمحادثة والمقابلة والاجتماع والحوار، ونقاشها مقيّد بمجال أو موضوع، وربما يكون عامًا أشبه بالتنفيس واكتشاف القدرات، والحديث فيها متاح للكافة حسب التنظيم، أو مخصص لأفراد بأعيانهم فقط، ويصبح لأيّ مجلس وغرفة مدير ذو صلاحيات وهو الذي أنشأها في الغالب، وربما يتخذ أعوانًا ومساعدين، وله صلاحيات الإسكات، والإبعاد، والتقديم والتأخير.
أما الدخول إلى أصل التطبيق والتسجيل فيه فلا يكون إلّا باستعمال معلومات حقيقية تعود لصاحب الحساب مثل رقم هاتفه المحمول، ويتم الانضمام حاليًا بعد دعوة يتلقاها العضو الجديد من مستخدم أقدم منه، وظلّ التطبيق يسير الهوينا رويدًا رويدًا حتى عقد فيه الثري العالمي مؤسس شركة تسلا محادثة مقصودة أو عفوية، فزاد عدد المقبلين على التطبيق، ولله في مجريات الأقدار شؤون لا يعلمها إلّا هو سبحانه.
فثارت تساؤلات عدّة عن مستقبل التطبيق، وأمانه، ومن خلفه، وغير ذلك من الأسئلة التي وردت على سابقيه، وسوف تبقى حيّة تنتظر لاحقيه، ومع إيماننا بأن الإنترنت منزوع الأمان مهما قيل عن الضمانات والاحتياطات، إلّا أن التجربة والخوض في عالم هذه المنصة أمر حسن كي لا ينجفل عنه النافعون فيصير موضع شرٍ مستطير، وبقعة سوء آسنةٍ، فلا ينفع في دين ولا دنيا، ولا يشرّف البقاع، ولا أهل اللسان، ولا الجيران في الأوطان، أو الإخوة في الدين، وكم فيها من فرص للخير والإحسان والمعروف.
إن هذا التطبيق يبعث تجارب ونماذج قديمة من مرقدها، مثل أسواق العرب، والإذاعات خاصة في زمن ظهورها الباهر الأول، ويعيد الحياة إلى المهارات الخطابية والمنبرية، كما أنه يجدد صفة المجالس والديوانيات دون تكاليف باهظة، وفيه استثمار للوقت، وإمضاء لزمن الانتظار الممل أحيانًا، مع جولة في عقول ومشاعر وتصورات الشركاء في الآدمية، والاهتمام، واللسان، والمعتقد، والبلد، والزمن.
كما أنه يطور فينا مهارات التفكير، وفضائل الانصات حتى للمخالف، والقدرة على الكلام والحديث، وإدارة النقاش، وطرائق الإقناع، وفنّ السؤال والجواب، ويقود إلى عالم الكتابة الرحب، ويالها من عتبات مقدسة تستحق أن يقضي المرء لأجلها الوقت الملائم ليستفيد ويفيد، وفوق ذلك يعرف كيف يعرض فكرته، ويقاوم الإشاعات والأراجيف، ويطالب بحقوقه المشروعة، ولا يقف عاجزًا عمّا يخدم نفسه وأهله ومجتمعه وبلده وأمته، ويدافع عنهم ما وسعه الجهد، وتلك سمة إيجابية يُحمد المولى عليها.
كذلك من مزايا هذه الغرف الصوتية أنها تقود إلى ارتقاء اللسان، وتنقية السمع، وإعداد المصافي قبل الذهن حتى لا تفسده الشوائب، ويوجد فينا هذا التطبيق القدرة على التمييز، ويجبرنا على الإثراء اللغوي من الألفاظ، والمعاني، والتراكيب، والأمثال، والحكم، ويقربنا إلى ساحات القراءة، ويعلمنا فضيلة التمييز والنقد الموضوعي للذات قبل أن يكون للآخرين، وفيه زرع للجرأة، والثقة بالنفس، فالقدرة على الحديث سبب لذلك، وطريق أكيد للنضج شريطة ألّا يكون الكلام لأجل الكلام فقط، فالملكان الكريمان -عليهما السلام- موجودان معنا في الكلوب هاوس وفي أيّ موضع ووقت، هذا غير آخرين يستمعون، وربما يمتعضون، وربما يعاقبون!
أيضًا لا يخفى أن في هذه المنصة عفوية ووداد وتلقائية، ونبض معبّر عن المجتمعات وأهلها، ومن الحكمة السبق البنائي إليها، وترك الجدل والهراء، وتجاوز ما قد يُرمى فيها من آثام وخمريات وشذوذ وعصبيات وغلو وسباب، وهي وقائع عاشاها الناس وعرفوها عبر منصات أخرى لا زالت تعاني من العدوان والبغي والتنمر، وما الصوت إلّا وجه آخر للصورة، والكلام، وعسى أن تكون في نغماته ونبراته ولحونه الصدق، والرفق، والحياء، والحنان.
ويمكن لباغي المنافع أن يحضر، وينصت، ويقيّد، ولا يسجل الحديث إلّا باستئذان، وقد يشارك أو يسأل أو يبيّن، حتى يخرج من الغرف مقتبسًا جذوة أو جذوات من أدب، وعلم، وفكر، ومهارة، أو على أقل تقدير يعرف الناس، وأمزجتهم، وما يدور في العقول والخيالات، فهذه الغرف صورة تعكس الواقع دونما تنميق في الغالب، أو هكذا يفترض، ويا لها من وسيلة ملائمة للقياس، والاستطلاع، والسبق الحميد، والموفق من صدق مع الله ثمّ مع نفسه والآخرين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 04 من شهرِ رجب عام 1442
16 من شهر فبراير عام 2021م