إدارة وتربية

مراغمة لا مقاطعة!

مراغمة لا مقاطعة!

المراغمة عبودية عظيمة ومحبّبة لله سبحانه، وربما لا يفطن إليها إلّا من أنار الله بصيرته، ووفقه لحسن العمل والمتاجرة المباركة بالنوايا الصالحة؛ فلا شيء أحبّ عند الله من مراغمة أوليائه لإعدائه بالطاعات، وإغاظتهم باجتناب الآثام، وقد أشار عزّ وجلّ إلى هذه العبادة في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ ﴾ [سورة النساء: 100]؛ فمع ما في الهجرة من مفارقة الأهل والمال والبلد، إلّا أنّ فيها طاعات كثيرة نبّه القرآن على عبودية المراغمة تأكيدًا لقدرها، وتنويهًا بها لأنها قد تخفى عن إدراك البعض، وخلاصة المراغمة أن يغيظ المسلم أعداء الله بقوله وفعله ومظهره وسائر شأنه وعمله قدر استطاعته.

وفي موضع آخر قال الله سبحانه وتعالى في نفس المعنى بسياق مختلف: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة التوبة: 120]، فمغايظة الكبار عبادة مطلوبة ومحبوبة، وما أجدر المسلمين باستشعار هذه العبودية في ثباتهم، وصبرهم، ومقاومتهم، ومقاطعتهم، وتربيتهم، وإنفاقهم، وفي كلّ عمل صالح من فعل أو ترك مهما قلّ.

كما شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته أن يسجد سجدتين، وقال عنهما فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: “إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان”، وفي رواية: “ترغيمًا للشيطان”، ولأجل عبودية المراغمة والإغاظة طلب النبي عليه السلام من الصحابة رضوان الله عليهم الاضطباع في طواف عمرة القضاء، والرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وحمد التبختر بين الصفين في القتال مع أن التبختر مذموم، وقُبلت الخيلاء عند صدقة السر، فهذه الأعمال تدخل صاحبها في باب من العبودية لا يكاد أن يعرفه إلّا قليل من الناس، ومن ذاق طعمه عاد إليه مرارًا؛ فأيّ شيء أجلّ من إرضاء الربّ، وإغاظة شياطين الجن والإنس من الكافرين والمنافقين والمتآمرين؟!

كذلك تظهر عبودية المراغمة والإغاظة في حياة الصحابة رضي الله عنهم كثيرًا، فصبر بلال رضي الله عنه على التعذيب ومجابهة المشركين بكلمة تحفِظهم كانت من صور المراغمة، وامتناع أسرى المسلمين عن تمنى لحاق أدنى الضرر بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى لو كان فيه نجاتهم من القتل والصلب نوع من إحراق قلوب الكافرين، ومثله حادث الهجرة الكبير بمعناه وأثره وفيه نزلت آية المراغمة، ومنه الاضطرار إلى قطع أشجار العدو، وتخريب ممتلكاته حتى ينزل على طاعة المسلمين صاغرًا مغتاظًا.

وأيضًا فآذان بلال على سطح الكعبة مرغم للمشركين وفيه إذلال لهم وتسفيه لإفكهم، ودخول الفاتحين إلى مكة وقد أظهروا القوة فيه إغاظة ومراغمة، ورضا عمر بن الخطاب بتفسير معاوية بن أبي سفيان لأسباب القوة المستعلنة في إمارته بالشام حينما قال بإن تبيان سلطان المسلمين فيه تبكيت للمشركين وإخافة للمتربصين، ومن صور المراغمة شعر حسان، وخطابة ثابت، والاجتماع للصلوات المفروضة، ولصلاة الجمعة والعيدين وغيرها.

لذلك فما أحرانا بالمسير على هدي النبي صلى الله عليه والسلام والرعيل الأول من الصحب الكريم رضوان الله عليهم، ففي ذلكم عبادات كثيرة، منها عبادة العمل ذاته، وعبادة التأسي والاقتداء، وعبادة الإغاظة والمراغمة، وعبادة إذلال المشركين وتحزينهم، وعبادة تعليم الآخرين، وعبادة تقوية صف المؤمنين، وغيرها مما يوفق الله له الصالحين من عباده وإمائه، وربما يجعلهم هذا الصنيع في عداد أولياء الرحمن.

أما مزايا عبودية المراغمة فكثيرة لأنها متاحة لكلّ مسلم ومسلمة أينما كانوا، ومهما بلغ مستوى صلاح الفرد واتباعه لأمر الله وأمر رسوله، ويمكن تأديتها بكلمة، أو فعل، أو ترك، مهما كان يسيرًا، بل وتدخل في المظهر، وطريقة الحديث، وبعض الاستخدامات؛ ذلك أنّ أهل الضلالة والتمرد والإغواء يحزنهم أيّ شيء يشير إلى فساد مكرهم وكيدهم، ومن ذلك مثلًا أن مستشرقًا قابل رجلًا مسلمًا من كبار المفكرين والمصلحين، فزاد غيظ الكافر من المؤمن حينما علم أنه متخصص في اللغة الإنجليزية دون أن يتأثر بأهلها في دينهم وعاداتهم السيئة.

وبناء على ذلك يحسن بنا نشر هذا المفهوم بين أبناء الأمة التي يُعتدى عليها وعلى مقدساتها، ودينها ورموزها، في أصقاع عدّة دونما نكير على مستوى المنظمات والدول في كثير من الأحيان، ولو أنّ السهام مصوبة تجاه اليهود أو النصارى لثارت لأجلهم منابر شرقية وغربية، وهذا الجور في التعامل كفيل بأن يستثير حميّة المسلم لنصرة دينه وقومه، ولو كان مبتلى بفعل الكبائر دون استحلالٍ مادام في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.

كما يجدر بنا الترحيب بهبّة جماهير الأمة الإسلامية لمقاطعة المنتجات الاقتصادية الواردة من البلاد التي تسخر بديننا أو برسولنا أو بشيء من شريعة ربنا سبحانه، أو تلك العائدة لجيوب بلدان والغة في دماء المسلمين قتلًا وتشريدًا، أو مشاركة في تخريب العمران، وإشاعة الخوف، وإفساد الأجيال، وحرمان الشعوب من حقوقها، وتمكين الأسافل والأراذل، وسيبقى الجانب الاقتصادي مؤلمًا على صعد متباينة، ونتائجه أكيدة وإن طال المدى بحصولها، وهو وجع واقع غالبًا، وسوف تئن منه شركات وموازنات وحكومات.

ومع ذلك فيجب ألّا نكتفي بالمقاطعة الاقتصادية مع أهميتها وأثرها الأكيد، فمن الحكمة تنويع سبل المقاومة، وجعلها في مستويات متاحة لجميع الناس، وفي الأوقات كافة، ومن جميع الأماكن والأطر المجتمعية؛ حتى يصاب بها الأعداء من زوايا متفرقة إلى أن تتكسر النصال على النصال، وهذه مسالك في نطاق قدراتنا الفردية، ومن العجز إهمالها، أو تضييع الفرص السانحة في بابها وما أكثرها وأضمن نتائجها.

فمن مسارات المراغمة وهي في متناول يد كلّ مسلم، أن يستمسك الرجل والمرأة بكتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام قدر استطاعتهما؛ فكم يشعل هذا التمسك من نيران مضطرمة لاهبة في قلوب المفسدين، ولا أدلّ على ذلك من كثرة استهزائهم بمظاهره البادية، وتوالي هجومهم على تلك المظاهر عبر وسائل كثيرة، وإنه لنصر عظيم أن يكون مجرّد المظهر الشرعي للمسلم والمسلمة مؤذيًا للكافرين، منغصًا على المنافقين، مقلقًا للمجرمين؛ فكيف يكون الحال مع المظهر والجوهر، ومع المنظر والمخبر؟

ومنها الارتباط الوثيق بالثقافة الأصيلة لأمتنا، المتصلة بعلوم دينها، ولغتها، وآدابها، وتاريخها، وعوائدها النافعة، وهذا الارتباط على شقين علمي معرفي، وعملي سلوكي، وكلما زادت العلائق معها أصبح الفرد المسلم أكثر اعتزازًا بدينه، وأشد إيلامًا لأعداء الله؛ لأنه ثابت في نفسه، معين لغيره على الثبات، ويتراصّ مع الآخرين بقوة ضمن بنيان الأمة الصامد في وجه موجات التغريب والإفساد العاتية.

كما أن تحصيل القوة المادية رديف أساسي للقوة المعنوية، وهذه القوة على أقسام منها الفردي والجماعي على مستوى الدول وعامة الأمة، ومنها الخشن والصلب، ومنها الناعم واللطيف، ومنها العسكري والمدني، وإن مراكمة القوة لواجب شرعي من أجل ترهيب الأعداء، وكبتهم، وصدهم، ومراغمتهم، وبثّ الرعب في قلوبهم، واسترجاع هيبتنا المفقودة، ومنح كلمتنا ومواقفنا القدر الذي تستحقه، أو نسحقّ بقوتنا الظلم وأهله.

وتزداد أهمية هذا الجانب بتواصي أمم الكفر ودوله على منع المسلمين من الحصول على أسرار صناعية وتقنية في حقول شتى؛ كي نظلّ ضعفاء مستهلكين واقعين تحت رحمتهم وغير خارجين عن أفلاكهم، وإن الخروج من هذا التيه الحضاري لمن أوجب الواجبات على أذكياء المسلمين وأثريائهم وساستهم؛ فحين نصنع الغذاء والكساء والدواء والسلاح ووسائل الاتصال، فلن نرتهن لكافر أو بغيض في الشرق أو الغرب.

كما يعد الاجتماع والوئام وإظهار الألفة بين المؤمنين، والمحبة للمسلمين، من طرق الإغاظة وتكدير خواطر المجرمين أكابرهم وأصاغرهم، ومنها الاستتار بالمعاصي والآثام، فالمجاهرة ذنب مضاعف ومن مفرداته إبهاج الكافرين والمنافقين بانتشار المنكر والسوء، وضعف المعروف وأهله، فمن أدركه الابتلاء بالمعصية فقمين به تحري الابتعاد وتعمد الاختفاء، ولعله أن يكون مأجورًا بأمور منها حرمان الأعداء من الفرح بذنوبنا، والله يلهمنا التوبة، ويغفر الذنوب جميعها.

ومن مراغمة أمم الزيغ والضلال أن تحافظ الأمة على مناهج تعليمها، ووسائل إعلامها، ومناحي مباهجها، من أن يداخلها ما يجرح دين الإسلام أو وقار مجتمعات المسلمين، وإذا لم تكن هذه الجوانب موافقة للهدي الرباني في صيغتها الرسمية، فمن الواجب أن يتصدى القادرون لتأليف مناهج بيتية ومجتمعية بحيث تتولى الأسر تعليم أجيالها بواسطتها، مع استثمار وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تصدير خطاب إعلامي رشيد وماتع، وكم ترك الأول للآخر.

كذلك من المراغمة توريث هذا المفهوم وغيره للأبناء والطلاب وناشئة المسلمين، وتوريث العلم بمعناه الواسع، وإبقاء سير القدوات العملية مروية معروفة ينقلها حاضر أو سامع إلى لاحق فمن بعده، ولا غرو فنحن أمة اشتهرت بالإسناد، وفي الإسناد رواية، وتسلسل، وتعاقب، وإبقاء على المرويات والمفاهيم والعلوم، وإذكاء لجذوة لا ينبغي لها أن تخمد في النفوس أو على أرض الواقع، ومن تولى فغيره مستبدل به ولابد.

ولن ننسى عملًا جليلًا يحقق المراغمة ويفزع قلوب المردة من شياطين الإنس وجنودهم، وهو شعيرة معظمة، وشريعة متبعة، ومأمور بها في القرآن وصحيح السنة وسيرة سلف الأمة، ويجب ألّا تغدو فريضة غائبة عن حياة المسلمين؛ ففيها النجاة والفلاح، وهي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بمعناهما الواسع الذي يشمل كلّ شيء، وبمداهما العريض الذي لا يستثني شيء، وبوجوبهما العيني على كلّ مسلم بحسبه.

إن الرجل المصلي المتصدق مراغم للكافرين، وإن المرأة العفيفة المتصونة لمراغمة للمنافقين، وإن الطفل الحافظ للكتاب العزيز لمراغم للمجرمين، وإن الكتاب والمقال والمادة الإعلامية، والمشروع الاقتصادي، والمصنع، والمزرعة، والمنجم، والمتجر، وأيّ شيء نافع مهما بدا صغيرًا في نفسه أو أثره أو حيزه لمراغم كبير ومغيظ عظيم لأولئك الذين لا يحبون لنا الخير، ويقصدون إصابتنا بالشر والسوء، ولا يرجون فينا إلّا ولا ذمة.

فاللهم ارغم أنوف المشركين والمنافقين والمجرمين والمتآمرين في تراب قذر ووحل آسن، واجعل سعيهم في تباب وخسار وانكسار، ثمّ زدهم حسرة حينما يرون جهودهم وأموالهم وأوقاتهم ذهبت وصارت بضاعة واكسة أخسّ من الهباء المنثور، فلا الأمة تركت دينها، أو انسلخت من موروثها، ولا الأجيال نسيت مقتضيات التزامها بالشهادتين، وهي تكرر ما يفيد أنها رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، وعلى هذا المحيا والممات.

أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 16 من شهر جمادى الأولى 1442

31 من شهر ديسمبر2020 م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)