فن التحدث
مع أني قرأت كتبًا كثيرة عن فنّ الحديث والخطابة والإلقاء، إلّا أن يدي امتدت إلى هذا الكتاب وبعد تقليب اشتريته ولم أندم والحمدلله. عنوانه: فن التحدث والإقناع، تأليف: وليم.ج.ماكولاف، ترجمة: وفيق مازن، صدرت الطبعة السابعة منه عام (2020م) عن دار المعارف، ويتكون من (355) صفحة ذات قطع متوسط، فيها تعريف ومقدمة وعشرة فصول ثمّ قائمة مراجعة تفيد أيّ متحدث قرأ الكتاب.
أورد المؤلف في الفصل الأول ضرورات الحديث المؤثر وهي أربعة: المعرفة، الإخلاص، الحماسة، الممارسة، ووجودها يزيد من الشعور بالسعادة والرضا بعد مخاطبة الجماهير، فيجب أن تعرف موضوعك؛ لأن المعرفة القليلة شيء خطير، ويمكن تحصيل المعرفة من مصادر عديدة، وإذا لم تكن لديك المعرفة الكافية بالموضوع فمن الأفضل ألّا تلقي حديثًا، ويعني الإخلاص أن تكون مؤمنًا بما تتحدث عنه، حتى تقدم حديثًا ذا مستوى ممتاز.
والمقصود بالحماسة أن تكون تواقًا للحديث وأن تُظهر للمستمعين حماستك وعفويتك، فمقياس التأثير على المستمعين ينبني على ما تشعه من حماسة، وترتبط الحماسة بالحركة والأداء المسرحي الذي يستلزم لياقة رياضية، وإيماءات موفقة، وأخيرًا تجعل الممارسة المتكررة للخطابة أحاديثك في أكمل صورها، وتتعلّم شيئًا جديدًا في كلّ مرة؛ حتى يصبح أسلوبك طبيعيًا بعد سنوات، والنصيحة الذهبية التي ما فتئ المدرب الخبير يكررها هي أن يكون قبول المرء لأيّ دعوة للحديث هو الأصل.
ثمّ جاء الفصل الثاني حول ما لا تهتم به عند الحديث المؤثر؛ فأولها العصبية لأنها مهمة وثمينة وتجعل الذهن والجسد في حال استعداد للاستجابة السريعة، وإليها يُعزى نجاح كثير من الأحاديث، وثانيها الخجل في الحياة اليومية؛ فسلوك كثير من المتحدثين يختلف حال وقوفهم خلف المنصة عن المعروف عنهم في حياتهم العادية، كذلك لا تقلق من الأصوات التلقائية التي تظهر أثناء الحديث على هيئة حروف مقطعة، واستخدم الوقفات بين الجمل وفي نهاية المقاطع للخلاص منها، ولا تهتم بصوتك ولا بلهجتك فإتقانك سيجعل الجمهور منصرفًا عن تقييمها. وأضاف المؤلف في آخر الفصل عدّة أشياء قد تكون مقلقة مثل المفردات ورأي الجمهور والتنفس، وشرع فيما يطمئن المتحدث ويعينه على قلبها إلى شيء إيجابي دافع بدلًا من كونها سلبية مانعة، ومراجعتها في الكتاب مفيدة للمتحدثين.
بمقابل ذلك حدّد الفصل الثالث المعونات المتصلة بنظام الحديث، وهي معونة الإعداد الجيد وأهم شيء فيه معرفة السبب الذي يجعل هذا الحديث ضروريًا ووجيهًا، ومن مفردات هذا الإعداد وضع الخطوط العريضة للحديث، والتدرب عليه، ومعونة الخيال، ومعونة الحقائق والأمثلة والاقتباسات التي يوصي المؤلف بإيراد واحد منها كلّ دقيقتين، ومعونة التلخيص في الذهن حتى تُمسك بزمام الحديث، ومعونة الافتتاح والختام، ومعونة ذكر أسماء بعض الحاضرين، ومعونة الإشارة لمكان الحديث ومعرفة خصائص الجمهور، والموضوعية مع الوضوح والدقة وتقوية الذاكرة.
أما الفصل الرابع فيحوم عند المعونات المتصلة بمواقف الحديث، ويشير المؤلف إلى قوة الصلة بين موقفك من الحديث وبين مستوى الأداء، ثمّ يؤكد على أهمية الثقة بالنفس، والصدق، واختيار الألفاظ التي تعين على الثقة والصدق، والاحتفاظ بالشخصية الأساسية دونما تصنع مع الإقلاع عن تقليد أيّ أحد؛ فالظهور على الطبيعة الحقيقية جاذبة، وتُظهر إخلاصًا صادقًا، وضرب بعد ذلك أمثلة على بضعة مواقف يتعرض لها أغلب المتحدثين وأقترح طرقًا عملية للتعامل معها.
بينما اختصّ الفصل الخامس بالمعونات المتصلة بأساليب الحديث، وأولها المظهر الحسن؛ فالمظهر الجميل توصية صامتة كما قال الفيلسوف سيروس، وسيكوّن الجمهور رأيه من مظهر المتحدث قبل أن ينطق بكلمة وهو رأي حاسم، والمعونة الثانية جهارة الصوت وتنويع نغمته ونبرته وسرعته حسب ما يقتضيه السياق، على أن تكون بدايتك بسرعة عادية مثل بداية تحرك السيارة، وللإيماءات والنظر بالعيون معونة مؤثرة فلغة الجسد تخبر عن الكثير؛ ولذلك أسهب المؤلف عنهما، ومنها معونة التكرار، والتوقف عن الحديث في بعض المواضع، ومعونة استخدام “نحن” والتقليل من استخدام “أنا” أو “أنتم”.
كما جعل الكاتب الفصل السادس عن ما تتجنبه في الحديث المؤثر، وأولها أخطاء النطق والنحو، ثمّ التعبيرات المبتذلة والخارجة عن حدود الأدب، والإمساك بالمنضدة أو المنصة، ومنها ألّا تتسمر في مكان واحد، أو تتحرك للإمام والخلف جيئة وذهابًا، والحذر من العبث بالأشياء مثل المنديل والإزرار والخاتم أو التعثر بالأسلاك، وأيضًا يتحاشى المتحدث البارع حفظ كلامه حرفيًا، أو قراءة النص من ورقة طيلة الوقت، ومما يتجنبه المتحدث أن يشتهر عنه بأنه هزلي أو مثير للضحك، أو أن يستفز الجمهور بكلمة أو فعل أو وصف، أو يبدأ حديثه باعتذار، ولفداحة أثر سوء الابتداء ساق المؤلف أمثلة على افتتاحيات رديئة.
وفي الفصل السابع بعنوان تشريح خطيب عرض المؤلف ملامح من طريقة الزعيم الألماني هتلر في الحديث والخطابة مع التحفظ على سياساته، وذكر بأن قدرة هتلر على الحديث المقنع هي مفتاح نجاحه، ثمّ استقرأ في مسيرة هتلر الخطابية الضرورات الأربع: المعرفة، والإخلاص، والحماسة، والممارسة، وأشار إلى أنه يتنفس صورة ألمانيا في مخيلته، ويكهرب جماهيره فينسجمون معه، وشرح طريقته في الإعداد، وإفادته من علم النفس ومعرفته بالجمهور المخاطب، مع تطبيق محتويات الفصول السابقة على نماذج من أحاديث هتلر، وسبق أن قرأت في سيرة د.عمر فروخ شيئًا من هذا الوصف عن خطب هتلر.
صبّ الكاتب المتحدث في الفصل الثامن خلاصات خبرته عن طرق التدريس، وأفرد التاسع لمواقف الحديث الخاصة مثل التقديم والتأبين، والمقابلة وحوارات الإعلام، ورئاسة الجلسات وحلق النقاش، وغيرها، وختم بالفصل العاشر مجيبًا عن هذا السؤال: كيف تتحسن؟ وبدأ الجواب بنصيحة مفادها أن تقبل جميع الدعوات التي توجه إليك للحديث ولا ترفضها إلّا بسبب قاهر، وكرر كثيرًا من نصائح الكتاب السالفة منهيًا إياها بضرورة الانتهاء بشكر المستمعين الذين منحوا المتكلّم جزءًا ثمينًا من أوقاتهم، وهو الشكر ذاته مني للقراء الأكارم جميعًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 26 من شهرِ ربيع الآخر عام 1442
11 من شهر ديسمبر عام 2020م