مواسم ومجتمع

البيهقي ومشروع الإنقاذ!

البيهقي ومشروع الإنقاذ!

تخيّل معي هذه الصورة القاتمة: سيطرت القوى الباطنية على أغلب بقاع العالم الإسلامي حتى في مركز الخلافة ببغداد الذي لم يَعُد له سوى قيمة اسمية رمزية؛ لأنّ الخلافة العباسية على طول مدتها لم تكن قوية موحدة إلّا في عصرها الأول، وبسبب هذا التدهور الأمني والسياسي آثر بعض العلماء الانزواء، وهرب مئات منهم إلى جوار الحرمين الشريفين، وانبرى آخرون للصدع بالحق وبيانه حتى لو أزهقت أرواحهم؛ عسى أن يكونوا عند الله في عداد الشهداء الأبرار، وأن يقبل من الآخرين اجتهادهم، ويعفو عنهم وعنّا جميعًا.

وَولد خلال هذا العصر العصيب أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخرساني (384-458) في قرية من قرى بيهق بنيسابور التي دخلت إلى الإسلام في أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وما كان الفاتحون يعلمون أن هذه القرية التي ليس فيها كبير مطمع ستنجب أحد أكابر العلماء والمحدثين، وصاحب كتاب قيل عنه: إنه أحد أهم أربعة كتب في الإسلام، وكم في النية الحسنة من بركات متسلسلة يستمر بعضها إلى قيام الساعة.

وليس المقام مناسبًا للإطالة في سيرة رجل قال عنه الإمام الجويني: إنه الوحيد من أصحاب الشافعي الذي له فضل على إمامه أكثر مما للإمام الشافعي عليه، وجزم آخرون بأنه لو اتخذ مذهبًا لأصبح له أتباع ومدرسة فقهية سنية جديدة، وفيما بعد وُصف كتابه الضخم السنن الكبرى بأنه من أهم الكتب المؤلفة في تاريخ الإسلام، فضلًا عمّا له من مؤلفات أخرى وجهود علمية وتربوية، ولا يضيع الأجر الذي يُبتغى به وجه الكريم سبحانه.

بيد أن مشروعه الأعظم، ومنجزه الأكبر والأخطر، هو تأليفه كتابه الفذ “الجامع لشعب الإيمان” الذي استند فيه إلى الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”-رواه مسلم، وأصله في البخاري- ومع قصر هذا النص النبوي إلّا أنّ فيه فتوح عظيمة لمن وفقه الله إليها.

ففي هذا الكتاب التفاتة إلى أحاديث وآثار مروية عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهي مبنية على حديث شعب الإيمان في تقصٍّ دقيق وبحث مستبصر ونظر عميق، حتى جمع البيهقي أحاديث لها معانٍ عظيمة، ومن تدبرها وقف على مقاصدها الكبرى في رحاب الإيمان والإسلام والأخلاق وشؤون المجتمع في معاملاته الخيرية والخدمية والصحية والبيئية وجميع ما يحقق النفع في المجتمع، ويجلب إليه البركات وثمرات الإيمان بالله عز وجل.

كما أنارت الشعب المجموعة في كتاب البيهقي الطريق لمن شاء نجاة نفسه أولًا ثمّ من يعول، وفتحت الباب واسعًا على أعمال شريفة تقوم بها النفوس الكريمة، إذ أكدّت الشُّعب على الجانب التعبدي فيها ليظلّ المرء على صلة بربه مهما كان لديه من قصور، وبعد أن يحسِن المرء لنفسه ولمن استطاع ممن هم حوله، يمكنه بعد ذلك التعاون مع آخرين لتحقيق شعبة أو أكثر؛ لأن نصف الشعب تقريبًا تحتاج إلى مجتمع يستفيد، ويتفاعل، ويتعاطى معها، ولعلّ هذا الكتاب قد سبق إلى تعزيز مفهوم المسؤولية المجتمعية وإن لم يذكرها بمصطلحها المشهور الآن.

لذلك أصبحت شعب الإيمان أساسًا عمليًا في تفعيل طاقات الناس الفردية والجماعية، وعلى مفهومها العظيم قامت أعمال فردية وشبكية كبرى حفظت مجتمعات المسلمين، وعلوم دينهم، وحضارتهم، وأعراضهم، وأرزاقهم، وشؤونهم الحياتية كافة، حتى في زمن الاختلال الكبير بالتغول الباطني، أو إبّان العدوان الصليبي عبر الحروب والحملات، أو بُعيد الاجتياح المغولي العنيف، ولولا فضل الله ثمّ ترسخ هذه المفاهيم الشرعية العميقة لذابت ثوابت، وضاعت مصالح، وغابت علوم ومعارف للأبد.

إن أكثر ما أضرّ بأمة الإسلام هو الغبش في مفهوم الإيمان، والتنازع العقلي فيه، وتضييقه أحيانًا، وفي سعة الشريعة ما يجعل الميدان فسيحًا لمن رام المشاركة قدر وسعه وتحمّله وطاقته، فمفتاح نهضة البلاد والأمة يكمن في توجّه الكافة نحو العمل المبارك وإن قلّ مع اليقين بأثره الذي تعظمه النية الصالحة، مع تكرار سؤال الله قبوله وتنميته عنده؛ فما أكثر شعب الإيمان بين نطق كلمة التوحيد، وإماطة الأذى عن الطريق بمعناها الحسي المباشر أو المعنوي غير المباشر! فكلّ إنسان إيجابي هو عامل نظافة مهم في مجتمعه، وأيّ مريد للخير سيجد ضمن الشّعب بابًا أو أكثر.

كذلك فإن تجديد الإيمان وروافده في النفوس مما يحيي الأفراد والمجتمعات، ويعيد لها أنسها بربها وقربها من دينها، وما أحوجنا لتجديد علاقة الإنسان بخالقه سبحانه، وبعلوم دينه، وبمجتمعه، وبيئته، ومع أخيه الإنسان، وضمن أسرته ومحيطه القريب، وبمستقبل قومه على اعتبار أنه مسؤول عنه ولو بأيسر جهد على حسب موقعه وقدرته؛ فالإيمان اعتقاد وقول وعمل وأخلاق، وهذه جميعها ميدانها الدنيا بما فيها؛ فيا باغي الإصلاح والتجديد والإحسان اقبل وافعل المعروف وخلاك ذمٌّ.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 10 من شهرِ صفر عام 1442

27 من شهر سبتمبر عام 2020م

 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بارك الله فيك الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه .مقال قيم ونافع وهادف .الايمان اعتقاد وقول وعمل واخلاق .كسب من عمل بها باخلاص في دنياه واخرته . ونحن نقراءومن يعمل مثقال ذرة خيرا يرى . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يرى . لايوجد ادق من هذا الحساب للاعمال وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)