سياسة واقتصاد شريعة وقانون

عن وزير العدل

عن وزير العدل

العدل مطلب عام، ولا يطالب علانية بنقيضه أحد حتى أكابر الظلمة والجناة، فهو فضيلة محببة وإن تجاوزها الإنسان بعجلته وجهله، ولذلك صارت وزارة العدل من أهم الوزارات الحكومية في العالم، وهي وزارة سيادية في بعض البلاد ويؤدي وزيرها أعمال النائب أو المدعي العام، وربما تشرف على الجهاز القضائي أو لا يكون لها عليه سيطرة، ولذا تكثر الخلافات بين القضاة ووزارة العدل ووزيرها.

ولا ريب أن الرواق العدلي واسع للغاية، إذ يشمل أحيانًا القضاة والمحامين وكتّاب العدل والضبط فضلًا عن وزارة العدل والادعاء العام والتحقيق والشرطة القضائية وغيرها من التكوينات التي تجلب الطمأنينة للكافة بسيادة العدل وشيوع مقتضيات النظام دون حيف أو استثناء، ولهذا السبب وصف معالي الشيخ صالح الحصين المرفق القضائي بأنه عرض أيّ امة، والعرض غالٍ نفيس يحميه أهله من التدنيس ولو بكلمة أو إشارة.

ففي أمريكا مثلًا يصبح وزير العدل هو النائب العام، ويحتلّ المرتبة السابعة في خط خلافة الرئيس، وأطول من تولى هذا المنصب هو “وليام ويرت” الذي أصبح وزيرًا بين عامي (1817-1829م)، وإليه يُنسب الفضل في منح المنصب مزيدًا من القوة والاستقلال والنفوذ، ولوزارته حضور قوي داخلي بحكم النظام المتبع، وهيبة عالمية بموجب الهيمنة الأمريكية، وفي رئاسة “أوباما” أصبح “أريك هولدر” أول وزير للعدل من السود، واستمر وزيرًا لثماني سنوات.

أما في فرنسا فكان من المثير اختيار أحد كبار المحامين وزيرًا للعدل عام (2020م)، وهو “إيريك دوبوند موريتي” الذي عُرف برؤيته الإصلاحية للجهاز القضائي، وخصومته الدائمة مع القضاة، وإزعاجه المستمر للمحاكم؛ حتى وصف بأنه رجل المحاكمات الصعبة والخطيرة، وحصد أكثر من مئة براءة كان بعضها في عداد المستحيلات، وقد تفنّن في الدفاع عن القضايا الجنائية الشائكة والميؤوس منها، بما أوتي من فصاحة، وقدرات خطابية وأدائية، وحضور لافت طاغٍ، حتى أهلته هذه القدرات إلى صعود خشبات المسارح والتمثيل في صالات السينما، ولوزير العدل هذا تصريحات إبان عمله محاميًا يبدي فيها استعداده للدفاع عن “هتلر” وأيّ رجل أعمال يقتل زوجته! وبمناسبة ذكر فرنسا أشير إلى وزيرة العدل الفرنسية رشيدة داتي، وهي أول امرأة من أصول عربية تصبح وزيرة في فرنسا، وفي مسيرتها قصص مخجلة كادت أن تتسبب في خلاف بين المغرب وفرنسا، كما لايفوتني التذكير بأن أول حضور للرئيس فرانسوا ميتران في حكومة بلاده حدث بعد أن أسندت إليه وزارة العدل، وكان فيها شرسًا!

وفي السعودية أُسست وزارة العدل عام (1382)، وبدأت أعمالها عام (1390)، وخلال أزيد من خمسين عامًا أصبح على رأسها ستة وزراء مما يعني أنه منصب مستقر والحمدلله، والوزراء الخمسة الأوائل صاروا أعضاء في هيئة كبار العلماء، وتبوأ اثنان منهم منصب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بعد مغادرة الوزارة هما أول وزير للعدل معالي الشيخ محمد الحركان، والوزير الخامس معالي الشيخ د.محمد العيسى، وترأس اثنان منهم مجلس الشورى هما الوزير الثالث معالي الشيخ محمد بن جبير، والوزير الرابع معالي الشيخ د.عبدالله آل الشيخ، وللوزارة تحت إدارة وزيرها الحالي معالي الشيخ د.وليد الصمعاني قفزات باهرة في مجال الخدمات العدلية الإلكترونية، ومن تقدير الوزارة ووزيرها أنه يجلس في مقعد متقدم خلال اجتماعات مجلس الوزراء بغضّ النظر عن زمن انضمام الوزير إلى عضوية المجلس، والتسلسل الزمني هو المعتمد في ترتيب جلوس الوزراء من غير الأمراء.

كما حضرت المرأة في ميدان وزارة العدل؛ فأول امرأة نالت منصب وزير العدل في العالم العربي هي التونسية ثريا الجريبي، وأول وزيرة في أمريكا هي “وفيت جانيت رينو” وظلت وزيرة لمدة ثماني سنوات متواصلة في رئاسة “كلينتون”، وبسبب نهجها المتسم بالفظاظة والاستقلالية أدركها غضب البيت الأبيض مبكرًا فيما يظهر، ومع ذلك استمرت في منصبها، وهي صاحبة قرارات عنيفة منها الأمر بشنّ حملة أمنية على مقر طائفة دينية بولاية تكساس عام (1993م) عقب تسلمها مهامها العدلية بأسبوعين فقط، ويكفيك من صلفٍ رؤية بداياته!

كذلك أصبحت اليهودية المتطرفة “أيليت بن شاوول” الشهيرة باسم “أيليت شكد” وزيرة للعدل في إسرائيل، ومن آرائها المعلنة دون مواربة دعوتها لإبادة الفلسطينيين والعرب مع أنها من أصول عراقية، وكفرها بمفاوضات السلام وما ينبثق عنها، ومعارضة عمليات تبادل الأسرى، ورفض العفو عن أيّ سجين فلسطيني، وإصرارها على قومية الدولة وألّا مكان فيها لغير اليهود، ومع أنها امرأة ووزيرة عدل يفترض منها الحنان والعدل إلّا أنها لم تخجل من الدعوة الصريحة لقتل نساء فلسطين وأطفالهنّ، والله يكفينا شر نساء يهود ورجالهم!

وشاركت وزيرة العدل اللبنانية “ماري كلود نجم” مع المتظاهرين يوميًا في بلادها عقب غضب الشارع اللبناني، وخلبت وزيرة العدل في أرمينيا ألباب بعض الصحفيين الذين طاردوها لالتقاط الصور وليس لانتزاع التصريحات، ووصفها البعض بأنها الوزيرة الأكثر جاذبية حسب حكمهم وفي بعض الأحكام جور وجنف! وصُنفت وزيرة العدل الإيطالي بأنها أجمل وزيرة في العالم علمًا أنها كانت عارضة أزياء قبل إسناد الوزارة الرزينة إليها، واختيرت وزيرة في حكومة “برلسكوني” الذي تملأ فضائحه بأنواعها مجلدًا ضخماً.

ونظرًا لتدخلات الرئيس الأمريكي “ترامب” في القضاء أبدى وزير العدل “ويليام بار” عزمه على الاستقالة إلّا إن توقف الرئيس عن التغريد حول قضايا وزارته، واستقال وزير العدل الياباني ” كاتسويوكي كاواي” بسبب اتهامات له ولزوجه بتقديم هدايا للناخبين منها البطاطس والذرة، وعلل الوزير استقالته برغبته في حماية سمعة السلطة القضائية عند الرأي العام، وهو نفس مصير وزيرة العدل الكورية “تشو مي أيه” التي استقالت عقب تهم لحقتها بتقديم تسهيلات لنجلها، واستقال وزير العدل العراقي هاشم الشبلي لأنه رأى نفسه غير قادرة على تحمل المسؤولية في مرحلة حرجة من تاريخ العراق.

بينما ساد الغضب في منصات التواصل الاجتماعي على وزير العدل المغربي محمد بن عبدالقادر لتبنيه مشروع قرار يحكِم الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن غرائب أحد وزراء العدل المغاربة اعترافه بأنه لا يفهم شيئًا عن التهرب من النظام الضريبي مع أن عمل وزارته لصيق بهذا الشأن، وعندما رُشح “جو كوك” لمنصبه في كوريا الجنوبية قضى ساعات طويلة مُستجوبًا حول استثمارات أسرته، وخدمات قدمت لابنته، وشهادة تعليمية لزوجته يشتبه بتزويرها.

وفي ليبيا عارض وزير العدل مصطفى عبدالجليل تغول وزارة داخلية القذافي، واستنكر المقتلة الشهيرة التي ارتكبها الزعيم في سجن بوسليم، وهو صاحب الحكم الشهير على الطاقم الطبي البلغاري المتهم بحقن الأطفال بالإيدز، وبعد أن ثار الناس على حكم القذافي أصبح من أوائل الوزراء المنشقين الذين قادوا تلك الثورة، ولا أعرف مصيره الآن خاصة مع الأوضاع المضطربة في بلاده، والله يؤمنها وسائر بلاد العرب والمسلمين والمسالمين.

ولن ينسى التاريخ أن البروفيسور سيد بك وزيرالعدل وعالم الشريعة التركي ألقى في عام (1342=1942م) خطابًا لمدة تزيد عن ثلاث ساعات في البرلمان، وقوطع بالتصفيق المرتب سلفًا عدّة مرات، وفحوى خطابه يدور على غاية واحدة هي إلغاء الخلافة العثمانية، وتلبية رغبات صديقه مصطفى كمال أتاتورك، فغدا خطابه حاسمًا في إقرار تلك الأفكار خاصة أنها جاءت على لسان رجل معمم محسوب على المشايخ وسبق له أن عمل عميدًا لكلية الشريعة.

أما طرائف وزراء العدل ومواقفهم فمنها أن مجموعة من القضاة في اليمن زاروا وزير العدل اليساري حينها، فخرج عليهم يرتدي سروالًا قصيرًا وهو تصرف لا يليق بوزير ولا يناسب في لقاء رسمي مع القضاة، وبعد نهاية الاجتماع أرسل الوزير لهم أحد موظفيه لتسجيل مطالبهم من المستلزمات المكتبية فقال له أحد القضاة: أضف معها نصف مترٍ من القماش! فتعجب الموظف وبقية القضاة من طلبه، وحين استفهموا منه أجابهم قائلًا: نريد أن نطيل ملابس الوزير فضحك الجميع.

ومنها أن وزيرًا مصريًا زار محاكم إحدى المحافظات وافتتح بعض المباني الجديدة، وظلّ في إحداها مدة ثلاث ساعات متواصلة، فيما قضى في الأخرى المجاورة لها ثلاث دقائق فقط، وفي زياراته دخل إلى قاعة المحكمة ثمّ قال لمن معه: هاتوا لنا أحدًا نضعه في القفص حتى نبدأ الجلسة! وانتقص وزير عدل مصري آخر أبناء العاملين في النظافة واحتقرهم، واستظرف ثالث سمج بما لا يليق على مقام النبوة مع خزايا أخرى له، فآل مصيرهما في الدنيا إلى الإقالة بعد غضبة شعبية.

أشير هنا إلى أنه في السنوات الأخيرة تتابع على منصب وزير العدل في مصر عدة وزراء وبعضهم لم يكمل سنة واحدة، والاستقرار في هذا المنصب بالذات مطلب ومؤشر، ومما يلاحظ في ذات السياق وجود فروقات بين وزراء العدل في العهد الملكي المصري وبين من جاء بعدهم، ومما يستلفت النظر أن مستوى القبول في كليات الحقوق انخفض إلى أقلّ الدرجات بعد حركة الضباط الأحرار، وهي التي كانت كليات نخبوية صعبة القبول فيما قبل، ثمّ جرى اعتداء مهين على رمز كبير هو معالي الدكتور عبدالرزاق السنهوري، ولهذه الوقائع دلائل على المسيرة العدلية في بلد يشتهر بفطاحلة الفقهاء والقانونيين.

أيضًا عزف وزير العدل الأمريكي “ويليام بار” على آلة موسيقية في حفل افتتاح مؤتمر للمحامين، وأطلق شاب سوري النار على قدميه حينما أذاعت وكالة الأنباء الرسمية خبرًا بإقالة أخيه وزير العدل ضمن تعديل حكومي، وتنازل وزير العدل السوداني نصرالدين عبدالباري عن مقعده ومقعد حارسه في الطائرة لامرأة وطفلها في مبادرة نبيلة، لكنّ المحزن أن طائرة الشحن العسكرية سقطت فمات ثمانية عشر راكبًا منهم المرأة وطفلها، وشارك الوزير في دفن الركاب الذين كاد أن يكون واحدًا منهم.

إن وزارة العدل من الوزارات المهمة التي ترتبط بها شؤون الناس في مجالات عديدة، ومن الصالح العام أن تكون مستقرة كي تحافظ على مكانة هذا الجهاز والعاملين فيه الذين يحظون بتقدير قديم وحديث في جميع التشريعات والأنظمة والحضارات؛ لأنهم أحد مصادر الرضا والسعادة والسكينة، ولهم يد في حفظ الحقوق ومنع الجرأة بالاعتداء على المصالح والضرورات والملكيات العامة والخاصة، ولا مغالاة في ذلك فالعدل أساس تنبني عليه فضائل جمّة، وفقدانه بلاء ماحق يقود إلى ضياع الأمن والهدوء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 03 من شهرِ صفر عام 1442

20 من شهر سبتمبر عام 2020م 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)