سير وأعلام

جمعة الماجد ومهارة الغوص!

جمعة الماجد ومهارة الغوص!

ينتمي الشيخ جمعة الماجد (1349=1930م-0000) إلى صحراء الجزيرة العربية وأمواه خليجها المطلة على منطقة واسعة من بلاد العرب في جانبيه، ودرس مبادئ القراءة والكتابة وشيئًا من القرآن الكريم عند المطوع في كتّاب دون أن ينال فرصة لمواصلة الدراسة أو الاستزادة منها خارج البلاد للحصول على شهادة حتى لو كانت ابتدائية، ودفعه الفقر لتعلّم الغوص وممارسته في كنف والده، وهو عمل مجهد خطر ومرابحه لم تكن مضمونه.

وفي أول شبابه دلف إلى عالم التجارة مدفوعًا من قبل خاله، ولأنه آمن بأن التجارة لن تنجح بلا إقدام ومجازفة ترك البيع الفردي واتخذ دكانًا ثمّ سمت همته إلى خارج البلاد فسافر إلى الكويت المتقدمة على دبي حينذاك في الاقتصاد والتعليم والسياسة، ومنها ومن غيرها تفتحت آفاقه ليس في التجارة فقط، بل في النظرة المستقبلية للاقتصاد والمجتمع والتعليم والعمل الخيري والاجتماعي فيما يبدو لي.

فلم يقصِر أبو خالد نفسه على العمل التجاري وملاحقة الصفقات والأموال، مع أنها أعمال مشروعة محمودة ومغرية للنفس بطبيعتها، وإنما أطلق بصره وبصيرته نحو فضاء رحب من العمل في المجال العام نفعًا لبلاده وأناسه وأبناء أمته العربية والإسلامية، فأنشأ المدارس الثانوية للجنسين، وبعدها أسس كلية فريدة للدراسات العربية والشرعية مرتبطة بالأزهر الشريف، وابتدع فكرة المدارس الخيرية فيما بعد لحلّ إشكالية تعليم أبناء الوافدين الذين يخدمون البلد ويستفيدون منه، فصار مطلوبه الأعلى بعيدًا عن حدود الذاتية والمنافع الضيقة.

وكانت أعماله التعليمية محكمة لدرجة أن طلاب مدارسه نافسوا على مراكز متقدمة، وأصبحوا في طليعة الأوائل العشرة على مستوى الدولة في كثير من السنوات، ونال عدد من الذين تخرجوا في كليته شهادتي الماجستير والدكتوراه وصاروا بذلك من أوائل الحاصلين عليها في الإمارات، وأشعرت مدارسه وكلياته بقيّة العرب والمجاورين والوافدين بروح الإخوّة والتكافل، وهي روح كفيلة بنشر الطمأنينة والأمن، وهل مطلب أغلى منهما؟

كما شُغف بالكتاب والمخطوطات وهو الذي لا يحمل شهادة تعليمية، ولم يظفر بقسط تعليمي يتجاوز حدّ القراءة والكتابة مع حفظ بعض سور القرآن العزيز، ولم ينتظم للدراسة في صفوف مدرسة أو ضمن مدرج جامعة، وتلك من دلائل النفوس الشريفة العليّة، التي تعلم علم اليقين دونما ريب أن الكلمة التي اُفتتح بها القرآن العظيم النازل من لدن العليم الحكيم لا يمكن أن تكون خلوًا من إشارات وتنبيهات عن القراءة ومركزية الكتاب والبيان في الحياة بمعناها الحقيقي.

لذلك سعى لإنقاذ أيّ كتاب يتعرض للفقد أو الندرة أو سوء التعامل، وعدّ نفسه مسؤولًا عن الكتاب بغض النظر عن مكانه وماهيته ولغته، وفتح لذلك مؤسسة سرعان ما تعاظمت فغدت مركزًا هو الأكبر في المنطقة ومن المراكز العالمية المرموقة التي تشرف على حفظ الكتب والدوريات قديمها وتجديدها، مع الحرص على جمع المخطوطات وترميمها حتى قارب عددها من مليون مخطوطة منها مئة ألف مخطوط فارسي، وجميعها متاحة للباحثين والمؤلفين بسعر رمزي.

وبهذا الرقم الضخم يتفوق مركز جمعة الماجد على مكتبات الجامعات التي سبقت ميلاده بعشرات السنين أو أكثر، ولم يغفل مركزه عن التفاعل مع مستجدات المعرفة والاتصال التي ظهرت حديثًا؛ وأتمنى ألّا يغيب المركز عنها فهي لغة الشباب المستهدف الأول بأعمال الشيخ الثقافية المباركة، تلك الأعمال التي سخّرت الأموال من أجل الثقافة والفكر والمعرفة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح الذي تسابقت إليه الجوائز والعضويات المحلية والإقليمية والعالمية.

كذلك مما يُذكر فيشكر عسى أن يصبح قدوة عند المسؤولين في عالمنا الإسلامي والعربي أن المركز حظي باستثناءات غير مسبوقة فيما أعلم، فالكتب الواردة إليه لا تُراقب رسميًا، وتنقل الطائرات الخاصة برئيس الدولة مقتنيات المركز من مخطوطات وغيرها، وإذا جُلبت عبر الطيران الخارجي عوملت مثل الحقائب الدبلوماسية، وهذه الأعمال لا تُستكثر على مركز يشرّف قومه ويُعلي من حضورهم وتأثيرهم، والمأمول مع المتوقع أن يُمنح المركز ما هو أكثر لأن رسالته سامية بريئة من الأغراض.

أيضًا لم ينصرف الشيخ جمعة عن الأعمال المجتمعية الأخرى، ولذا ساهم بتكوين جمعيات خيرية ترفع عن الفقراء ذلّ العوز وقهر الحاجة، وتحول دون سيادة النظرة الطبقية عند فئام كثر قد لا يجدون سداد الرمق وهم يرمقون في جوارهم مَنْ يعيش في ترف باذخ، ومن عنايته الاجتماعية منح الأولوية للنساء والفقراء في التعليم والتوظيف والإسكان، والنقل المدرسي المجاني، والتهيئة لسوق العمل، وبناء المكتبات العامة في مناطقهم النائية، وأما رفع الوعي العام فشعلة لا تنطفئ حملها الماجد لأبناء أمته خاصة وللعالم كافة، والله ينير بها مرقده البرزخي على رضا من الرحيم الرحمن ورضوان.

وتُحفظ عن الرجل الكبير كلمات حكيمة منها قوله: على الثري أن يستمتع بماله مع الآخرين، ويحتاج العمل الخيري إلى مبادرات تمامًا مثل التجارة، والكتاب ليس قنبلة فلم الخوف منه؟ ويرى أنه لا يقدر على إنقاذ الأمة سوى التعليم، وليس هذا الرأي بغريبٍ ممن يجزم بأن للتعليم قيمة لا تعادلها كل أموال الدنيا، ويؤكد بأن علينا خدمة الثقافة من أجل استنارة الأمة، ويلمح إلى أن التطوع من أكبر المحفزات لرقي المجتمع وتنمية الدولة، ومن أجل تعزيز هذا المفهوم يكرر دعوته لكل قادر بأن يوقِف شيئًا من أمواله وأعماله، وبادر بوقف جميع مؤسساته الخيرية والثقافية، ولم يكتف بذلك بل أشرف على إدارتها تاركًا العمل التجاري وهمومه لنجله خالد.

هذه كلمة مختصرة عن رجل يعيش في عصرنا، عانى من الفقر، وغاص في أعماق البحر للبحث عن اللؤلؤ والمال الذي يعيش منه وأسرته، ثمّ فتح الله عليه من بركاته بما شاء والله يزيده ويبارك له، فلم ينس الرجل ماضيه في الغوص والبحث عن الجوهر الثمين، بيد أنه غاص في حضارة أمته وتاريخها وأمجادها، فاستخرج منها أعظم لؤلؤة وهي العلم والمعرفة المنتجة للوعي، ثمّ جهد قدر وسعه في سبيل تنقيتها مما علق بها من شوائب، وإزالة ما أحاطها من عوائق، ليبرزها للناس جليّة بهيّة جاذبة على صورة كتاب أو مخطوطة أو مكتبة أو مدرسة أو جامعة، وقاده ذلك لصناعة تلك الدرة المضيئة بعد أن سبح لأجلها في بحور ومحيطات فصاغ مركزه المعني بالعلم والكتاب والتراث حتى بهر زائريه من شعراء وكتّاب وساسة وعلماء، وأضحى المركز مَعلمًا ينافس العمائر الشاهقة والأبراج الجميلة وربما يربو عليها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 28 من شهرِ ذي الحجة عام 1441

18 من شهر أغسطس عام 2020م  

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خيرا بالتعريف بهؤلاء القامات من ابناء الجزيرة العربية ، الاترى معي ان هذه ثقافة تحتاج الى حضور مستحدث يستجلب الشباب اليها عبر اساليب يشارك بها ابناء هؤلاء القامات وتقديمها الى اجيالهم لاحياء الرموز حية في ثقافة الاجيال اعتزازا ووطنية ؟
    لدي رؤية لذلك ان رغبت الاطلاع

  2. جزا الله خيرا الشيخ جمعة الماجد وبارك الله له في ذريته . وكثر الله من امثاله . نعم القدوى يقتدى بها لمن يحب عمل الخير والاحسان. والله يحب المحسنين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)