أين وزير التعليم؟
أجدني مضطرًا لإخبار القارئ الحبيب بأن ظنه جانب الصواب إن اعتقد بأن المقصود هو وزير التعليم الحالي في بلاده أو غيرها، وسيكون حدسه أبعد عن طرف الحقيقة إن ظنّ بأن المراد بلد بعينه، فهذه مقالة عامة لا تخصّ شخصًا ولا بلدًا، وفكرتها مثبتة منذ سنوات في خزينتي التي أضم إليها شتات الأفكار والفوائد، ثمّ أخدمها وأضيف إليها بما يلائمها مما أسمع وأقرأ وأتأمل، حتى إذا بدت مكتملة ظهرت من تلقاء نفسها مثل ثمرة ليس لزارعها من يد في وقت طلوعها، فما عليه سوى الغرس والسقي والتعاهد مع التعلّق بالله كي تكتمل وتفيد.
أما حكاية العنوان فتعود لقصة سمعتها من متحدث عربي روى أنه قابل مسؤولًا من دولة آسيوية غير مسلمة، وهي ذات نهوض قوي نسيتها الآن وربما تكون كوريا الجنوبية أو سنغافورة أو غيرهما، والمهم أنهما خاضا في شؤون التطور والتنمية وما يحتف بهما، وحين ارتاح الآسيوي للعربي قال لي سأحدثك بصراحة، لكن أجبني عن سؤالي أولًا: أين مكان وزير التعليم عندكم؟
فلم يفهم العربي سؤال محاوره الآسيوي، ولذا وضح السؤال قائلًا: ما منزلة وزير التعليم ووزارة التعليم بين بقيّة وزارات بلادكم ووزرائها؟ وهل الوزير ووزارته أهم وأولى من الوزارات التي تُسمى سيادية مثل العدل والمال والنفط والخارجية والوزارات العسكرية والأمنية؟ وحينها أجابه العربي بأن التعليم وزارة ووزيرًا وشأنًا في بلده العربي الأفريقي أقلّ أهمية وحظوة من هذه الأمثلة المذكورة التي تظفر بالمال والقرار والتقديم، وزاده بأن وزير التعليم منصب تعاقبت عليه أسماء كثيرة خلال سنوات خلافًا للثابتين أحقابًا فوق الكراسي من الوزراء الأقوى والأخطر دون أيّ تبديل.
وعندها قال الرجل الآسيوي لجليسه العربي ما معناه: لقد درست سيرة نبيكم فوجدت أنه مارس أعمالًا كبيرة في الحكم والقتال والتفاوض والتجارة، بيد أن صفته التي لازمته في جميع مراحل النبوة هي أنه كان معلمًا لمن معه ولأمته من بعده، وأنتم فرطتم في هذه الخصيصة، وأقصيتم المعلم والتعليم عن دوائر التأثير والتغيير؛ ولذلك فلن تتحسن أوضاعكم ما لم تصلحوا من تراتيبية الأهمية والمسؤولية، ويغدو التعليم من أعلاها وأسناها.
أكرر مرة أخرى بأن هذه المقالة غير معنية بإنسان ولا مكان ولا زمان، وأشير إلى أن وزير التعليم هو الوزير الأهم في بعض البلاد، وأن التعليم له غاية العناية والرعاية في بلدان كثيرة تصنف على أنها الأفضل تعليمًا في دول العالم، وحول هذه المسألة كتب ودراسات منشورة، والروايات عن الزعماء الذين نقلوا بلادهم من القاع إلى صفوف عليّة تعزو مكاسبها بوضوح إلى التعليم مصرحة بأنه الركن الأصيل لأيّ مشروع إصلاح أو استيقاظ أو نمو.
ولأهمية التعليم عبث به الغزاة كلما سنحت لهم الفرصة، فألمانيا منعت الدراسة بالفرنسية بعد احتلال فرنسا مباشرة، وفرنسا التي تعي الأبعاد الثقافية جهدت لفرنسة الجزائر وبقية بلاد المغرب وأفريقيا من خلال التعليم، ولدنلوب يد فساد وإفساد في التعليم عقب الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتروى قصص امتعاض كثير من الأمريكان حين يرون في البلاد التي يستهدفونها متعلمًا واعيًا أو بصيرًا بلغتهم، ويغضب الأقوياء عسكريًا ممن يرفض ضغوطهم حول التعليم واللغة كما فعل إمبراطور اليابان بعد القنبلة الأمريكية الإرهابية على هيروشيما، ومن حكمة اليابان قبولهم أشكالًا حديثة ونظمًا مستجدة بعد أن احتضنتها ثقافتهم اليابانية وأشبعتها بروح اليابان.
بل لليابان ذاتها تاريخ في طمس الهوية التاريخية لكوريا عقب أن اكتسحت أراضيها، ومنعت الدراسة باللغة الكورية، وغيّرت المناهج بما يعيد تكوين تفكير المواطن الكوري وعاداته، وأحرقت مئات الآلاف من نسخ كتب التاريخ الكوري مع فرض رقابة صرامة على مناهج التاريخ وأساتذته؛ حتى يحافظوا على السيطرة اليابانية في المجتمع الكوري ويشكلوا وجدان الشعب الذي هدمت القوة اليابانية آثاره، وسعى المكر الثقافي لتبديل ديانته.
ونخلص من هذه الأمثلة إلى أن أكثر المعارك فشلًا هي تلك التي تستهدف هوية شعب وحضارته وثقافته، ولذلك لم يرطن الفرنسي بألمانية، ولم يقنع الياباني بظلال قبعة أمريكية، وبقي الكوري يرى الياباني عنصريًا بغيضًا يجب عليه الاعتذار عمّا اقترفه، وحتى الهنود الحمر لا زالت لهم بقية من تراث وثقافة مع أن المحتل الأبيض أبادهم في وقائع شنيعة ومخزية سبق لي استعراض ثلاثة كتب عنها.
أما المسلم والعربي فله من دينه وعلوم شريعة مولاه، وله من تاريخه الإسلامي والعربي، وله من لغته العظيمة وآدابه السامية، وله من ارتباطه البلداني بأرضه وقومه، ما يبني حصنًا منيعًا دون الهوية وإن وهنت وخفتت وتوارت فإنها لا تختفي ولا تهوي إلى قعر سحيق؛ ولا ريب فتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما أعظم حديث الأديب العالم محمود محمد شاكر عن هذا المفهوم في كتابه القصير النافع بعنوان: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، وما أجدر الناشئة والمربين بالنظر فيه.
ثمّ نصل إلى أهمية تشبع مناهج التعليم بالقيم وبما يعزز روح الانتماء في الطلاب، بعيدًا عمّا يقال من وجود مفردات مثيرة في المناهج، وعلى من يجد حرجًا في نفسه من دعاوى الخصوم وضغوط المنهزمين أن يبحث عن صورتنا في مناهج الغرب وأمريكا، وعن طبيعة التربية للناشئة في مناهج اليهود والفرس، وكيف يتصور هؤلاء جميعًا العلاقة مع المخالفين، فإذا وردنا انتقاد منهم قلنا لصاحبه بعزة وأنفة: سارع لتنقية مناهجك ومناهج أبناء حضارتك ودينك أولًا، ومناهج من تواليهم وتحميهم علانية أو سرًا ثانيًا، ثمّ عد إلينا عقب ذلك لنتفاهم!
كما يحسن الموازنة بين الحفظ والفهم والوعي والتحليل، لأن التعليم الحقيقي هو الذي يجمعها دون أن يزري قسم بآخر، ويعتني بمهاراتها كي يتسلح بها الطلاب فهي من خير الزاد لهم في التفكير والتعبير، ومن أعظم النصيحة للبلد والمجتمع؛ لأن طلاب اليوم هم أعظم مورد للمستقبل، وأكبر مصدر للأمان إذا صدقنا ونصحنا في تربيتهم وتعليمهم وتزكيتهم، والله يجعلهم بررة أتقياء أقوياء أمناء، وهذا هو الأمل والرجاء.
بقي أن أثني على المعلم والمعلمة حملة المشاعل والسروج، وما أجدرهم بالتكريم والتحفيز والمعونة رسميًا وشعبيًا، ومن العون المرجو أن تتفاعل الأسر والبيوت في متابعة تعليم بنيها في كل حال ومناسبة خاصة مع فشو التعليم عن بعد بعيد جائحة كورونا، فالبيت والمسجد والمتجر والشارع والحديقة والسفر والحضر والمتعة كلها أحوال تناسب شيئًا من التعليم وكثيرًا من التربية، وليس هذا بقليل على والد أو والدة هو في بيته وزير تعليم حاضر بلا غياب يقتضي السؤال عن موضعه!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 26 من شهرِ ذي الحجة عام 1441
16 من شهر أغسطس عام 2020م
4 Comments
من قصيدة الشاعر المصري المغفور له حافظ ابراهيم تسمي بالعلم والاخلاق
الام مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق
الام استاذ الاساتذة الالي شغلت ماثرهم مدى الافاق