سير وأعلام عرض كتاب

الشيخ الدريعي وحياة في الدعوة

الشيخ الدريعي وحياة في الدعوة

ليس هناك أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا، ذلك أن الدعوة هي لب عمل الأنبياء والمصلحين من السائرين على سنتهم، والمقتدين بهديهم، وهي العلاج الوحيد لإصلاح انحراف الناس عن صراط الله المستقيم، وفي سبيلها بُعث رسل وأنبياء، وتعرضوا لشتى صنوف المجابهة من الكلمة والإعراض حتى التهجير والموت، وهو مصير يكاد أن يشترك فيه جلّ حملة الأفكار والعقائد، وما أسعد من صرف عمره لأجل تبليغ رسالة صحيحة مخلصة توصل إلى رب العالمين.

وبين ناظريّ كتاب عن سيرة رجل عاش حياته في الدعوة إلى الله، عنوانه: في ميادين الدعوة: محطات في حياة الشيخ محمد بن حسن الدريعي، تأليف نجله: د.حسن بن محمد بن حسن الدريعي، صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة الكتاب الجامعي سنة (1441=2020م)، ويتكون من (590) صفحة موزعة على إهداء فمقدمة ثمّ اثنين وعشرين قسمًا بعناوين مختلفة، يعقبها الخاتمة وفهرس الموضوعات، وبذلك يدخل المؤلف مع قائمة كريمة ممن بر أباه بالتأليف عنه، والله يكتب له أجر البر، ومثوبة نشر الفضل.

سيجد القارئ في سيرة الشيخ الدريعي معالم واضحة، على رأسها أنه شغف بالعلم وطلبه في سن متأخرة عن أقرانه نوعًا ما، فظلّ هذا الشغف معه إلى شيخوخته ختم الله له بالإحسان، ومنها ارتباط مراحل حياته بالدعوة والتعليم، فهو في بيته داعية ومعلم، وهكذا في مسجده وبلدته وبين أقرانه، وحمل ثقل هاتين الأمانتين في المدارس والمعاهد والكليات طالبًا وأستاذًا، ولم يغفل عمّا يسري في دمه من حسٍّ دعوي حتى في حضرة الملوك وأولياء العهود والمشايخ الكبار والأمراء وغيرهم؛ كما حمل هذا الهاجس في رحلاته المعدودة خارج المملكة مع ما يكتنف ذلك من مخاطر المخالفة، وعواقب الظنون المغلوطة عن داعية لا يؤمن بالبدع المتأصلة في نواحٍ عديدة.

كذلك سيرى المطلع على هذه السيرة في شيخها قدرًا كبيرًا من الجسارة والجرأة ربما تصل إلى نزعة التمرد ورفض الانصياع، ولا غرو فهو الداعية المحتسب، ولن يبلّغ الهيّاب دعوته أو يوصل خائف رسالته الاحتسابية، وللموضوعية فالشيخ ممسك بعروة الحكمة غير زائغ ولا متجاوز. وفي سيرته تبرز مهاراته في القراءة، والجلد، والبراعة الخطابية، والتفنن اللغوي، والعناية الفائقة بعلوم القرآن الكريم في خطبه وبرامجه وأطروحته للماجستير، ومما يظهر جليًا تركيزه الكبير على مسائل العقيدة والإيمان وشؤون المرأة والأسرة.

أيضًا يتبدى في سيرته عظم أثر التلقي عن المشايخ المخلصين، وهذا التلقي لا تغني عنه الكتب؛ ففيه أصول وآداب ولفتات قلما يلمحها قراء الكتب، ومن ذلك نصيحة مشايخ كبار له بالتأهل قبل إلقاء الكلمات، وبقراءة كتب الأمهات وألّا يكتفي بالمختصرات، هذا غير تشجيعهم له دراسيًا وخطابيًا ودعوًيا، وشفاعة أكابر منهم لتخليصه من قرار تعيينه قاضيًا حتى لو قيل بأن كرسيه القضائي مفروغ من صنعه، فهو الداعية جبلّة واستعدادًا حتى قال له عابر شهير: أنت خلف لنا في الشيخ الراحل عبدالرحمن الدوسري.

ومن بُعد نظر الشيخ الدريعي (1358-….) تبكيره للمشاركة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية أرضية كانت أم فضائية، وله حلقات فيهما تتجاوز عدة الآف، وأعظم منها صبره على الانتقاد والاتهام، ولو أدرك الشيخ وسائل التواصل الحديثة لنافس فيها غيره، لكنها جاءت في وقت تكاثرت عليه الأمراض فأقعدته حتى عن الحج والعمرة، وللشيخ مع أمراض العيون والركب تاريخ عسى أن يؤول إلى سجل الحسنات ورفعة الدرجات.

ولم تسلم مسيرة الشيخ الدعوية من منغصات، منها أن الناس استمعوا لإحدى خطبه ففهموا مراده خلافًا لما يريده فشغبوا على أمير بلدتهم دون أن يعلم الخطيب، وتلك بليّة لا يسلم منها كاتب أو خطيب، وزاد التنغيص أقوام أهل بهت أو سوء فهم فنقلوا عنه الإساءة والتحريض، لذا أُوقف عدة أيام حتى تحول مركز الشرطة إلى ملتقى للدعاة والمشايخ، وصارت الموائد تذهب وتعود إلى المركز، ثمّ انتهت القضية بعد تدخل مشايخ ووجهاء وأمراء، ولربما أن الدريعي من أوائل المشايخ الذين تعرضوا للإيقاف والمساءلة بعد تكوين الدولة الحديثة، والله يديم علينا الوئام والثقة والسعة، ويعيذنا من الآثام وكلّ نمام ومسيء في فهم الكلام.

أما شؤون الشيخ الأسرية فنلحظ فيها صبره على قساوة الأب وبره الكبير به وبأمه التي كانت سببًا في انتظامه الدراسي، ثمّ اقامت حفلًا له بعد أن أتمّ حفظ جزء عمّ، وحين نهره رجلان في مسجد رفعت يديها تسأل الله أن يصليا خلفه فكان كما طلبت بعد أربع سنوات فقط، وظلّ الشيخ الابن وفيًا لذكرى أمه الشامية النجدية زليخة بنت إبراهيم الملحم حتى تمنى بعد أن فتحت له الدنيا لو عرفت أمه وشاهدت ما هو فيه، ومن الأكيد أنه لم يتركها من الدعوات وصالح الأعمال، وبالمناسبة فلوالد زليخة ذكر بهي في أول أقسام سيرة سبطه.

كما يحضر أخوه حمد في سيرته، وهو الشقيق الأكبر، وله حنان كبير تجاه إخوانه وأخواته وإحسان وعطف جعلته يدفع ماله لتخليص أخته من زيجة لم تفلح، وصيرته يفزع لما أشيع لديه خبر وفاة أخيه محمد فلم يهنأ حتى تأكد من كذب الناقل، ولحمد حرص على أخيه لتطبيب عينيه، ولتطييب خاطره بترك ما يكرهه، وشاء الله أن يرتحل أبو سامي وهو دون الخمسين، فيضم محمد أولاد أخيه الثمانية إليه، ويتزوج أمهم، ويحفظ للورثة أموالهم وينميها ثمّ يؤديها لهم بعد أن آنس منهم رشدًا، ومن بركات هذا الزواج غير رعاية أيتام أخيه أن ولد للشيخ من أرملة حمد أولاد وبنات أحدهم مؤلف هذا الكتاب.

وقد تزوج الشيخ إحدى عشرة مرة، وأنجب عشرة أولاد توفي واحد منهم، وثمان عشرة بنتًا توفيت منهن اثنتان، وللشيخ طريقة في تنظيم اجتماع الزوجات دون إجبار، وهو حسن العشرة مع الباقية، حسن العهد مع المفارقة، وأما ذريته فهم بنو صلبه ولا تمييز بينهم، ويضمهم في مجلسه العامر بالفوائد والطرف والزوار، وفوق ذلك يوصي بنيه أن يكتفوا بواحدة؛ ولعلّ وصيته هذه أن تطفئ غضبة النساء إذا علمن عن زواجاته الكثيرة نسبيًا!

بينما ارتبط الشيخ بعلاقات تتلمذ أو زمالة أو صحبة أو خطابة مع عدد كبير من أشياخ المملكة وعلمائها الكبار ومع مشايخ عرب غيرهم، وله معهم مواقف جادة أو طريفة أو محرجة أو ذات عبرة ساقتها السيرة الواسعة التي سطرها نجل الشيخ، ولدى الدريعي آراء وسجال معهم سواء حال الاتفاق أو الاختلاف، والله يديم الألفة والتناصح والتآزر بين العلماء وأهل العلم، فبتكاتفهم وأمانتهم تصلح أمور كثيرة.

أيضًا لا تخلو السيرة من وقفات ذات دلالة، منها كلمته التي ألقاها أمام الملك فيصل فأحرجت المشايخ الحاضرين لأنهم سكتوا عن التعليق بينما وافقها الملك، وكلمة أخرى وعظ بها الناس دون إذن من الشيخ محمد بن إبراهيم بل وبشيء من الجفاء في الرد على إسكات الشيخ له، ومع ذلك اختاره ابن إبراهيم قاضيًا بعد هذه الحادثة بسنوات، وإنكاره أمام الأمير خالد-الملك فيما بعد- انحناء الأجانب له وموافقة الأمير على الإنكار وإعلانه كراهية هذا الفعل، وقصته مع الأمير سلطان في حائل حتى قام الأمير متحدثًا لمن معه ومن فرط الحماسة سقط مشلحه عن أكتافه، وحواره مع الأمير سلمان-الملك فيما بعد- على إثر الوشاية به عقب إلقاء خطبة، وليس آخرها انتصار الشيخ ابن غصون له في الأحساء، وهبّة الشيخ الفريان لمساعدته في رحلته العلاجية الشيّقة في لندن، ونفور الشيخ الدريعي من الغلاة وأفكارهم.

كما يرد في سيرة الشيخ حوادث طريفة أو غريبة، منها تقسيم العمل بينه وبين رفاقه في الرياض وإعفائهم له من جميع مهامه المنزلية التي لم ينجح بها، وكيف عوضهم عنها بأحسن منها، وشقاوته في مدرسته الابتدائية حتى جزم معلموه بأنه لن يصلح لشيء، وقصة زميلهم الذي سهر فنام ثمّ ثقل عن الاستيقاظ فحملوه إلى صندوق سيارة أسرعت به إلى الكلية فاستيقظ من رداءة الطريق أو القيادة، وأدى الامتحان واجتازه، ومن ضمنها حكاية الممرضة التي لم يصافحها، والمذيعة التي اشترط عليها الاحتشام لإجراء لقاء معه، والدولة التي أبى أن ينحني لزعيمها فألغوا استضافته الرسمية، وعاصِر الخمر الذي طلب النفط مقابل التوقف عن بيع الخمر!

ومما يستوجب النظر في مسيرة الشيخ الداعية بالقرآن وإليه، أنه يمتلك غير مكتبة الكتب مكتبة أخرى رديفة فيها بضعة الآف من تسجيلات صوتية ابتدأها منذ عام (1380) وفيها مواد نادرة، أو مفقودة، أو هي الوحيدة لأسماء لامعة ومؤثرة، وكم أتمنى لو نشط المؤلف وإخوانه لتحميلها في قنوات صوتية عبر أكثر من مسار وموقع وتطبيق لتعظم الفائدة منها، وليكون أجرها لوالدهم ولمن تحدث فيها أو كان سببًا في ترتيب تلك اللقاءات لقامات عظيمة فيهم مالك بن نبي ومحمود شاكر وعلي وافي وأنور الجندي وعبدالرحمن الدوسري وعبدالله بن قعود وعبدالخالق عظيمة والأميري والعظم والشعراوي وآخرون مع حفظ الألقاب والتبجيل لهم بلا استثناء رحمة الله عليهم جميعًا.

اللهم تقبل من الشيخ محمد بن حسن الدريعي، وأحسن له الخاتمة على عمل يرضيك ولقاء يسره، واجعل ما قدمه وما سيقدمه من الباقيات الصالحات، وليت أن أبناء الأكابر المؤثرين يستعجلون في رواية سير الآباء والمشايخ والأساتذة إن لم يستطيعوا إقناعهم بكتابتها قبل رحيلهم، ولعلّهم أن يدركوا معاصري أولئك الكبار ليتلقوا عنهم ما يمكن أن يفيد ويضيء المسالك للسائرين؛ فالطريق ممهدة بخبر من سلف، معمورة بمن سيأتي وعسى أن يكونوا خير خلف.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 22 من شهرِ ذي القعدة عام 1441

13 من شهر يوليو عام 2020م  

Please follow and like us:

One Comment

  1. توفي الشيخ محمد الدريعي في مدينة الرياض بعد معاناة مع المرض، وكانت وفاته يوم الأحد 20 من شهر جمادى الآخرة 1443= 23 من شهر يناير عام 2022م. رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)