سعيد آل لوتاه والإحسان على بصيرة
بعض الناس مبارك بقوله وعمله، بسكونه وحركته، برأيه ونهجه، بعصاميته وعظمته، ويبدو لي أن الشيخ سعيد بن أحمد بن ناصر بن عبيد آل لوتاه (١٩٢٣-٢٠٢٠م) واحد من هؤلاء الكبار ذوي النفائس الذين أسفت على رحيلهم يوم أمس جموع ومشروعات وأفكار ومواضع وأسر ومحاضن وبلاد شتى، والله يكتب له المنقلب الحسن الآمن، ويجعل مآله إلى خير مما ارتحل عنه.
وبمجرد استعراض منجزاته العديدة يتبين بوضوح أثر الانتماء إلى أسرة عريقة، تخاف الله وترجوه، وتربي أنجالها على النفع والإحسان، ولعله من فئام كان أحد آبائهم صالحًا فأدركت أحفاده بركات الأب ودعواته لبني صلبه ومن تسلسل منه عن ظهر أو بطن بالبركة والخيرية، وما أكمل الامتداد الأسري حين يحافظ على ذات النهج السوي والصراط القويم دون أن يحيد عنه بنزغة أو سوء منزع، وما أجلّ التربية الرشيدة من الأسرة المتماسكة التي تعدّ درعًا حصينة تصد الضربات، وتحمي من الموج اللجي المظلم.
فمن جملة التربية التي تعرض لها الشيخ في صباه الباكر بعد التعليم المرتبط بالقرآن الكريم، أن ولج إلى دنيا الأعمال غوصًا في البحار بحثًا عن اللؤلؤ تحت نظر أبيه، ثمّ قيادة السفن في سن مبكرة، مع براعة في معرفة الجهات والاستفادة من مواقع النجوم لتحديد المسارات في السفر كي لا تُبتلى السفينة وركابها بالتيه، وإن التيه لمرير على من وقع فيه دون أن يستطيع دفعه أو تغييره ولو ببعض كلمة.
لذا تستبين الجدية في سيرة الشيخ سعيد عبر محطات حياته كلها، فما ظنكم بفتى صغير يحج من بلدته راكبًا على جمل، ويعود على سفينة شراعية، ولا يخشى قطع البحر في المتاجرة والقيادة، ثمّ يتأهل للزواج وعمره خمسة عشر عامًا، ويمارس أعمالًا إنشائية وكأنه مهندس بارع دونما دراسة؛ وإنما بمهارة مكتسبة تنم عن ذكاء واجتهاد، ومسعى دؤوب في البحث عن الرزق واكتساب المهارات.
وإن تحمل المسؤولية المبكرة لمن دلائل النضج، وعلامات القابلية للتطوير، ومن آكد وسائل التأهيل القيادي، وضمان التعاقب كي لا يجد المرء نفسه مسؤولًا دون تهيئة أو مران؛ فيضيّع مجدًا صُرف فيه تحصيله أغلى الأثمان، وهو الأمر الذي خشي منه راحلنا حين قال قبيل بداية عقده الأخير: “نتخوف من الجيل الصغير الذي لم يعرف حياة أهله وكيف أداروا شعوبهم وكيف حكموا بلادهم”، ولعله اجتهد في تمكين عقبه وإعدادهم لحمل الراية من بعده، ليطمئن وهو حي على استمرارية منظومته.
فأثمرت كلّ هذه المقدمات الصارمة، وتعاضدت في صناعة إنسان يصف بمساعيه وأفكاره وتحليلاته الكمال البشري، والسمو الفطري دون أن ندعي له عصمة أو تقديسًا، وقسم حياته المديدة بين العلم والعمل، واستثمرها في التعليم والاقتصاد، وأنجز فيها ما يكفي أن يكون ميدانًا فسيحا للعشرات من الدراسات التنظيرية أو أزيد؛ كي تستجلي مكامن الحكمة في مقوله، وسبل الحنكة في صنيعة، وعلامات التوفيق في مشروعاته ومؤسساته.
وله أوليات مشرقة باسقة، فإليه ينسب الابتداء بإنشاء أول مصرف في العالم يعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية ويقاوم كبيرة الربا دون أن تعجزه العقبات، وأسس في دبي أول شركة مقاولات تبني المنشآت الضخمة، وفتح فيها أول جمعية تعاونية، وله سابقة تعليمية بافتتاحه كليتي الطب والصيدلة للفتيات فقط، وإقامة أول شركة تأمين وفق رؤية شرعية، وله مشاركات بلدية وتجارية خدم فيها بلاده وغيرها من جوارها فما أبعد.
كما أنه مولع بالتاريخ وتجلياته، ومن ذلك تسميته منطقة باسم موقعة بدر الكبرى، وإطلاق لقب عائلته على محلة عامرة زرع شوارعها المتجهة نحو القبلة بالنخيل وفي ذلك إبداع يشير لعمق تمسكه بدينه وترابه وأسرته، ثمّ احتفى بميناء بورسعيد بعد تخليصه من الأجانب مقتبسًا اسمه لمنطقة طورها، وإن الاعتزاز بالتاريخ لمن سمات الرجل العاقل؛ وما أحقر من يعرض عن تاريخه فضلًا عن أن يركله بقدمه أو يسيء إليه.
بينما يمثل التعليم مرتكزًا مهما في مسيرته إذ أسس مؤسسة للأيتام تربيهم وتعلمهم ثمّ توظف من شاء منهم في شركاته، ويساعدهم فوق ذلك على الزواج والاندماج في المجتمع المحيط بهم، وأقام مشروعًا تعليميًا أصيلًا وضخمًا لتهيئة الطلاب قبل دخول الجامعة، وسبقت الإشارة إلى كلياته الصحية المقصورة على قاصرات الطرف مع تقديمه للحافظات طبقًا لرواية د.خليل العوضي عن موقف الشيخ مع كريمته، ومن بديع منجزاته العناية بالمعلم، وتيسير التعليم عن بعد، ورعاية برامج تعليم اللغة العربية لغير أهلها، وإن تمتين قدرات المعلم لكفيلة بتربية جيل عظيم، وإن نشر العربية لأساس في الحفاظ على فهم دين رب الأرض والسماء، والدفاع عن الرَّبع والمرابع.
أيضا امتاز ببث فكره عبر المؤلفات التي تحكي تجاربه، وتعلن آراءه في التعليم، ونظراته في الآيات والأحاديث والأحكام الشرعية والحياة، وتنقل خبراته في الاقتصاد والتربية والإدارة، والملحظ الأبرز في مؤلفاته ارتباطها بالوحي المقدس من القرآن الكريم والسنة النبوية، وحرصه الأكيد على بث ما جاش في صدره واستقر في عقله وخالط نفسه نصيحة لله ولعامة المسلمين وخاصتهم؛ ولم يكتف بما شيده من منجزات أو يركن إليها، بل أخرج مكنون صدره، وخلاصة جهاده، ولربما أنه كتب كي لا يكون كاتمًا لنتاج العلم والعمل.
واعتنى الرجل بالبيئة والتقنية والاتصالات والطب والزراعة من خلال مشروعاته الناجحة التي لم تقتصر على التجارة والاقتصاد والتعليم فقط؛ وكان الهم المجتمعي حاضرًا فيها بقوة، فوصفت أعماله التجارية والخيرية بجلاء معاني شعب الإيمان التي تنقل المجتمع من الفردية إلى التشاركية، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن الانكفاء والخمول إلى الفعالية والحيوية، ومن موقع المفعول به المنتظر مصيره إلى موضع الفاعل المبادر المختار لصيغة الفعل وزمانه.
هذه شذرات من أخبار رجل انصرف للعمل حين انشغل الناس بالجدل، وأوقف بعض الأثرياء جزءًا من أموالهم فيما جعل هو تجربته كلها تعمل بروح الوقف حسبما ينقل عنه د.سامي صلاحات، وأعرض عن الظهور بشخصه فنابت عنه ثماره الجاهزة للمحاكاة ومن دعى إلى هدى فله أجر من تبعه إلى يوم الدين، وهو ذو عقلية ابتكارية تبحث عن الحلول بلا تبعية للمخالف والمستعلي على أمتنا، ودون غرق في وحل العجز والكسل، أو لجوء إلى البحث عن الأعذار، أو النكوص حسيرًا مع شيطان التسويف.
وهي جزء من سيرة رجل يُباهى بحضارته وثقافته وإرثه الديني، فشق دروبًا وعرة نحو تعليم وثيق الصلة بعروقه، غير مبتعد عن جذوره؛ فمثل هذا النوع من التعليم يبقى ويصمد ويورق فيسر الناطرين، ويزهر فيسعد من يجد ريحه، ويثمر فيغني من يكتفي بثمرته، وإن التعليم لفلسفة عملية واضحة خالية من التعقيدات، وإنما ضيعها البريق الزائف تحت العناوين اللماعة، والعويل المجلجل داخل المشروعات الخواء، وبعد سنيات يسيرة تفضحها المخرجات الهزيلة، ولقد حذرنا الصادق الأمين من مسالك المنبت الذي لم يقطع أرضًا ولم يبق ظهرًا.
كذلك هي قصة فيها بيان عن إنسان تسامى على الفئوية والإقليمية، وترفع عن المشين في التصور والحديث والفعل، فغدا أطول من البنيان وأخلد من العمران وأنفع من مظاهر الدنيا الزائلة، وأخبر عن شيم أهل الجزيرة العربية ومكارمهم سواء من ساكني الصحراء أو قاطني السواحل، فكلّ واحد منهم رافد للثاني ومكمل له، ثمّ مضى الرجل لمولاه عن مئة عام ما حاد فيها أو تاه عن طرق الرشاد والهدى والمنافع، ولكأني به كان في دنياه قرير العين، ساكن النفس، سعيدًا ببرد اليقين، وسلامة الخاطر، والله يجعله قدوة وإمامًا في إحسانه البصير للمفكرين والعاملين والواقفين والأثرياء والمربين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 08 من شهرِ ذي القعدة عام 1441
29 من شهر يونيو عام 2020م