سير وأعلام

سامي سلمان: غياب بلا انقطاع

سامي سلمان: غياب بلا انقطاع

قبل عشرين سنة أو أزيد وقع بين يديّ كتاب لطيف في الإدارة عنوانه الخطوات الذكية، وتلك سنوات أكثر المقروء فيها عن علم الإدارة، وكنت أقول لرفاقي بأن علماء اللغة أوصوا تلامذتهم بوضع القاموس المحيط قريبًا من وسائدهم للرجوع إليه إذا استيقظ اللغوي أو الأديب من منامه وأراد البحث عن كلمة، وقياسًا عليه فربما يجب على ناشدي حسن الإدارة أن يضعوا هذا الكتاب على مكاتبهم وأمام أعينهم أينما ذهبوا.

فهو كتاب واضح، محدد، مباشر، عملي، بلا تكلف ولا زيادات، يمكن الاكتفاء بجزء منه دون آخر لشموليته وتنوعه وبراعة تقسيمه، مفيد للناشئ والخبير، وقلما تنعدم الحاجة إلى محتواه النافع في كثير من الأزمنة والأمكنة، ثمّ اكتشفت عقب ذلك أن هذا الكتاب يصف شخصية مترجمه بدقة كبيرة، وإذا كان اختيار الرجل قطعة من عقله، فالترجمة اختيار وعمل أشارا بوضوح إلى طبيعة القائم بهما د.سامي تيسير سلمان.

وفي يوم الأحد التاسع والعشرين من شهر شوال عام (1441) فجعنا بخبر رحيل الشيخ الدكتور سامي سلمان (1380-1441) عقب إصابته بمرض متزامن مع انتشار جائحة كورونا، والله يجعله حين صلي عليه وأدرج في قبره بالخبر يوم الاثنين غرة شهر ذي القعدة الحرام من عداد الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة وفضلها ومنازلها، وما ذلك على ربنا الكريم بعزيز، وهو سبحانه العالم بالسرائر وأخفى.

وحين ارتحل أبو عمر عن الدنيا وغادرها إلى عالم البرزخ، ترك خلفه ما نحتسب على الله أن يبقيه ليظل عمله، وتعظم آثاره، وتدوم حسناته، فأولاده بررة صلحاء ولن يتركوا الدعاء لأبيهم، وكم أجرى الله على يدي الراحل من أعمال خيرية مباشرة، أو بنصيحة ومقترح، أو بتهيئة أجيال وحملة مشاعل، وأما العلم الذي تركه فتشهد له كتبه، وكلماته، ومشاركاته، وتغريداته، والله يمن عليه بالقبول، وتخليد هذه المآثر لتكون له لسان صدق في الآخرين، وحسنات مضاعفات عند رب العالمين.

أما إذا أردنا الإشارة لبعض إنجازاته، فسيبرز لنا أنه من رؤوس الساعين في خدمة الأوقاف سواء عبر البحث العلمي والتأليف والمنتديات، أو من خلال العمل والإقناع والأخذ بيد أهل الأموال للسير نحو تحقيق لذة العطاء التي لا يشعر بها الأثرياء قبل الوقف، ثمّ المشاركة في كل ما يخدم الأوقاف ولو كانت حلقة نقاش مختصرة، أو مجموعة واتساب يتشارك فيها أناس من مستويات علمية متباينة، فالرسوم لدى الرجل والتحفظات والتعقيدات لا مكان لها في سبيل خدمة الوقف وما يتعلق به، والكبير لا يلتفت للصغائر.

كما أنه أبدع غاية الإبداع في التنظير والتطبيق فيما يخصّ الشركات العائلية وحوكمتها وكتابة دساتيرها وحفظها من المزالق التي تصادف أمثالها، وفي صنيعه الباهر هذا حفظ للمال، وتنمية للمشروعات، وتمتين للعلاقات الأسرية، وزيادة في تماسك المجتمع، وتقليل من الخلافات الأسرية، وتقليص أعداد المنازعات القضائية، وتسهيل سبل خدمة المجتمع، وتمكين ثقافة العمل الخيري والوقفي في البيوتات التجارية، ولدى الأسر العريقة، وضمان التعاقب الآمن، وياله من سهم أصاب أجورًا كثيرة، وحمى ساحات عديدة، وأبقى المعروف وصنائعه فينا.

أيضًا كان د.سامي فارسًا في صناعة الرجال من خلال التدريب الذي تفنن فيه، والمعايشة أو الملازمة، وربط الكفاءات ببعضها، ومساندة أيّ عمل جديد، وكم من وقف أو مؤسسة أو إدارة للمسؤولية الاجتماعية أو صندوق عائلي له فيها أثر ظاهر أو خفي، وبذلك أمضى حياته وهو على هيئة بيت خبرة متنقل، ومصنع رجال لا يتوقف، ومنبع أفكار لا ينضب، فإذا خلد إلى تويتر صاغ حكمًا للأجيال تمتزج الخبرة فيها مع النصح والمحبة وجميل الأسلوب.

لذلك لا غرابة أن يكون هذا نتاج رجل خصص كلّ مرحلة من حياته لعمل جليل، وكان بريئًا من عار السلبية، وذا ابتسامة تطفئ لهيب النفوس المريضة، مع طيب قلب ولفظ يستوعب بهما الآخرين، ثمّ أعانه تكوينه الثقافي والعلمي والتربوي فغدا فقيدًا عند أسرته وجيرانه، ولدى العمل العائلي، والقطاع المجتمعي والخيري، والمسار الوقفي، فضلًا عن جمهرة المثقفين والدعاة، هذا غير مصلاه ومصحفه ومكتبته، وياله من رجل مبارك عاش لمعالي الأمور ببصيرة جعلته ينجح في عالم وقف الأموال، ويفكر في كيفية وقف المكتبات، ويسعى لنشر الوعي الإيجابي بطريقته المحببة.

وقد يناسب الاستشهاد ببعض أبيات من قصيدة رثى بها الراحل معالي د.غازي القصيبي زميله وكيل وزارة الصناعة والكهرباء م.يوسف الحماد، وهي جميلة تصف حال د.سامي سلمان – رحمة الله على الجميع- :

وفيًا… وأشباه الرجال مظاهر يسوؤك ما يخفي ويرضيك ما بدا
عفيفًا… وأشباه الرجال تراهم على سلب الدنيا قيامًا وقُعّدا
صدوقًا… وقد يجني على المرء صدقه إذا أصبح الكذابُ بالكذب سيدا
سخيًا… إذا ضن البخيل بماله بذلت من الوجدان ما يخجل الندى
فوالهفي … أن تأخذ الأرض أروعًا وتبقي عليها.. زائفين وأعبدا

هذه مقتطفات من مسيرة رجل من الصعب إذا عرفته، أو عملت معه، أو سمعت عنه، ألّا تحبه، ومن المستحيل إذ شاهدت غراسه أو ثماره، ألّا تعجب به، ومع أن عمره محدود بسنوات غير طويلة إلّا أنها تتزاحم بالعطاء والتضحية والتآلف والمنجزات العلمية والعملية مع رضا وسماحة وتطاوع، ولم يترك نهجه في المنح الفكري، ونقل التجربة، وتبصير الناس حتى وهو على فراش مرضه الذي ارتحل على أثره، إذ كتب للناس خلاصة من ملاحظاته تفيد في الوقاية والتحصين حين وقوع الأوبئة، فرحمة الله على د.سامي سلمان المؤمن الإنسان، الذي لم يكن فردًا بل كيانًا شامخًا فيه عدّة أركان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

 الثلاثاء الثاني من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1441

23 من شهر يونيو عام 2020م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بارك الله فيك أخي أحمد. لا نظن إلا أنه كان خالص النية صادق النصح، فبارك الله في عمله، ونفع به الكثيرين.
    اللهم تقبل من عبدك سامي سلمان أحسن ما عمل، وتجاوز عنه، واجعله في أصحاب الجنة.

  2. جزاك الله خيرا وبارك الله فيك الكاتب الفاضل احمدحفظه الله ورعاه . وانت تكتب عن سيرة المرحوم الشيخ الدكتور سامي سلمان جعل الله مثواه الجنة ولااسرته الصبر والسلوان . بارك الله له في عائلته وذريته . وكثر الله من امثاله . خير قدوة يقتدى بها من احبه الله ووفقه لعمل الخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)