قِرْطِمْ!
أخبرني إنسان عن قصة حدثت مع والده وجدّه قبل أزيد من نصف قرن، خلاصتها أن الجدّ أصبح وحيدًا في منزله بعد زواج جميع ذريته ووفاة زوجته، فحرص أولاده على انتقاله معهم ليكون في موضع العناية والبر اللائقين بمقامه منهم، فهذا أقلّ الواجب له، وبعد تردد وافق وذهب مع أكبر بنيه، وظلّ الجدّ بين فينة وأخرى يتساءل أمام أولاده وأحفاده بشفقة قائلًا: يا تُرى ماذا فعل قِرْطِمْ؟
وقِرْطِمْ هذا “هرٌّ” يساكن الجدّ في منزله، ويؤانسه في وحدته، ومن أهميته خلع عليه الجدّ هذا الاسم الغريب الذي لا يعرف الراوي له معنى، وكان الجدّ يطعمه من غدائه وعشائه، فالقطط محسوبة ضمن متاع البيت وأحد أهله، وهنّ مثل الطوافين من الخدم، ولذا فإطعامها يتجاوز وصف الكرم لأنه واجب الاشتراك والمساكنة، ويبدو أن قِرْطِمْ تأقلم مع الوضع، واستطاب الحال؛ خاصة مع وجود “البِّقرِطْة” التي لا يحبها الجد، ولها شأن آخر سيأتي.
ولأن الأبناء بأبيهم بررة، وسؤاله تكرر عن قِرْطِمْ عدة مرات دون أن يقدر على نسيانه، ترافقوا معه وسافروا إلى بلدتهم، وحين دلفوا إلى بيتهم القديم بدأ الجدّ ينظر لأنحاء فنائه الصغير، ويبحث في غرفه الخالية، وينادي بصوت المحب المتلهف على قِرْطِمْ دون جواب، وبعد يأس قرر الراحة كي يمضى مع أبنائه يومًا عبقًا في الدار العتيقة، وما أجمل الحنين، وما أشد معالجة الأشواق خاصة المرتبطة بالأماكن القديمة.
ثمّ باغتهم في اليوم التالي وهم جلوس في صحن البيت هرٌّ ضخم، وأخذ يدور عليهم حتى وقف أمام الجدّ موقف الخاشع التابع المحب وفي عينيه بقية من عتاب، وشيء من كلام، فعرف الجد بعد تمعنٍ أنيسه زمن الوحدة، وقال لبنيه هذا هو قِرْطِمْ، فتعجب الجميع من زيادة حجمه، وجرأته، وظهور آثار النعمة عليه، وزادت المفاجأة حين تبعته إلى اللقاء عدد من القطط ليس منهن البِّقرِطْة!
فتسربت البسمة من الجدّ إلى رفاقه، وقال مخاطبًا صديقه قِرْطِمْ: كفيناك مؤونة البحث وأطعمناك فكنت صغيرًا هزيلًا لا تعرف من العالم الخارجي شيئًا، وحصرت أفقك في هذه الدار وساكنها والمشاغبة البِّقرِطْة، وبعد أن هجرناك وتركناك توكلت على الله الذي تكفل برزق عوالم الأرض والبحر والجو من الثقلين، ثمّ انطلقت حرًا مستندًا إلى نفسك وعزيمتك، واعتمدت على لمح نظراتك، وتمييزك للروائح، وقوة أطرافك، فصارت خيارات شهواتك أمامك كثيرة متنوعة ترتع فيها كما تشاء، وغدا لديك سعة وأحلاف ورفقة؛ وقد يكون هذا تفسير نظراتك المعاتبة، لأنك لو بقيت عندنا لعشت وارتحلت دون أن تعرف أن للدنيا أكثر من شكل وطبيعة ومذاق وهم!
أما البِّقرِطْة فلربما أنها تضايقت من انفلات قِرْطِمْ، وعدّت صنيعه نوعًا من الخيانة، وما علمت المسكينة أن هذا طبع مركب في أغلب الذكور، فمنهم من يتناوله من حله ولا حرج عليه، ومنهم من لا يترك سبيلًا ممكنًا إلّا ولج منه، وكم من بِقرِطْةٍ خدعها قِرْطِمٌ متوحش بعد أن ملأ أذنيها بالخداع والوعود الكاذبة، ولا أدري متى تعي جمهرة الإناث أن الطريق واضح، والمسار مستقيم، ومن سلك دربًا عوجًا أو مظلمًا ففي نيته غشٌّ كبير، حتى لو حلف أيمانًا مغلظة، وأبدى صنوف الولاء والوله.
بقي أن أخبركم أن الجدّ لا يحب البِّقرِطْة لأن إحدى بناته رأتها في المنام تحدثها بأنها من الجن، وأنها لا تحب الجدّ الصارم الذي يرفض إبقاء صغارها في حوش بيته الصغير، وبعيدًا عن محاكمة هذا التفسير فمما قرأته أن الشيطان تمثل مرّة للنبي صلى الله عليه وسلم على هيئة هر، ومع ذلك كان يوصي بالقطط ويحذر من تجويعها أو حبسها عن المرعى، فالقطة تلتهم الفأر الفاسد البغيض، وقد تنظف المكان من الحشرات والزواحف الضارة، وتأكل أكثر ما يُلقى إليها، ومن العبر أن لسان مروان بن محمد -آخر خلفاء بني أمية- حين رمي بعد قطعه التقطته هرة وأكلته!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 03 من شهرِ شوال عام 1441
26 من شهر مايو عام 2020م
3 Comments
تذكرت حديث عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ” لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً ” ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
فما ترك الله من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ولا كائن إلا تكفل الله برزقه قال تعالى {وفي السماء رزقكم وماتوعدون}.
شكرًا جزيلًا على ماخطت يداك، مقال رائع.
الآية: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾.
♦ السورة ورقم الآية: هود، الآية (٦).
الكاتب احمد حفظه الله
مقالة من روائع ماتكتب . وحكمة تنفع لمن اراد الانتفاع