مواسم ومجتمع

أساتذة لا يموتون!

أساتذة لا يموتون!

سمعت قبل عدة سنوات، من مسؤولٍ كبيرٍ في وزارة خدمية، واقعة ملخصها أن وزارته اضطرت إلى إجراء تعديل في أسعار بعض خدماتها، وكي تقنع الرأي العام بذلك، تعاقدت مع شركة علاقات وتسويق؛ لترويج هذا التغيير على أنه مصلحة عامة، يفوق نفعه ضرره؛ هذا إن كان الضرر سيذكر من الأساس.

قال الراوي: لم نثق بجدوى العرض الذي قدمته الشركة، لكننا قبلناه مجبرين؛ وكنا نتهامس: أيعقل بأنَّ ذلك الكاتب الاقتصادي الكبير سيوافق على مساندتنا؟ وهل سيخرج ذلكم المتحدث المتدفق؛ ليناصرنا ضد المواطن العادي، وهو الذي نال الشهرة بفضل هذا الجمهور الضخم من المواطنين العاديين؟ وكان جواب ممثل شركة التسويق: لكل إنسان ثمن! وأبدى المسؤول دهشته من المقالات المتوالية، والمقابلات المتكررة، التي عبَّر فيها هؤلاء “الخبراء” عن دعمهم لخطة وزارته، وأنها عين الصواب، ومعين الحكمة!

وأتذكر في هذا السياق، أن أحد الأصحاب أحضر سبَّاكاً عربياً؛ لإصلاح مشكلة في منزل والده قبل أزيد من ثلاثين عاماً، وكان في جيب صاحبي قلم من الحبر الناشف، ولم يكن السباك خلواً من بعض ثقافة، وشيء من فلسفة، وفي خضم نقاشهما؛ سأله السباك عن تخصصه الجامعي؟ فأجاب: الإعلام! وعندها رفع السباك رأسه، وسحب القلم من جيب الشاب، وسأله: قلمك هذا بكم؟ فقال: بنصف ريال، وكان للسباك رأي آخر؛ حين علَّق مبتسماً: يمكن أن تكون قيمته بألف ريال أو أزيد! ولا أدري أقال السباك لصاحبي بأن القلم قد يهوي بحامله في دركات، أو يرتقي به في درجات!

وكنت أتأمل في سيرة العلامة محمود محمد شاكر-أبو فهر-، وأتعجب من سجنه لأكثر من عامين في عهد جمال عبد الناصر، على خلفية مقالاته التي كشف فيها عوار الحال الثقافي والأدبي، من خلال فضح الكاتب القبطي لويس عوض، المسؤول الثقافي في صحيفة الأهرام الشهيرة، مع أن أبا فهر ليس له علاقة حسنة بالتيارات المناوئة للناصرية حينذاك، ومقالاته التي صدرت إبَّان عهد السادات في كتاب باهر بعنوان ” أباطيل وأسمار”، لم تكن سياسية بل ثقافية خالصة! ويبدو لي بأن السرَّ في الغضبة عليه، أنه أيقظ الوعي، وعرَّى بعض الأُجراء من أدوات النظام المستخدمة في تزييف الوعي العام؛ حتى أن المواطن المصري العادي صدَّق أن بلاده منتصرة على إسرائيل في حرب(1967م)، ليكتشف خسارتها المشينة فيما بعد.

ولأن الوعي وإشاعته معضلة تواجه كل طاغية، لم يتحمل النظام العسكري في أسبانيا بقيادة الجنرال فرانكو سماع أشعار فريدريكو غارسيا لوركا، الملقب بالفتى الأنيق، بسبب قصائده ومحاضراته المليئة بالشوق إلى الحرية، مع أنه كان خلواً من أي توجه سياسي، ولم تكتف أجهزة الأمن بمنعه، أو سجنه، أو نفيه، بل قررت إنهاء حياته رمياً بالرصاص في ليلة ظلماء، ومن اليسير تعليل الموت بسكتة أو جلطة، وكان الجزاء على إحياء الوعي إماتة من أحياه!

والمثقف هو صوت الحكمة، وحامي الأخلاق والقيم، والمعبر عن آمال الناس وآلامهم، أو هكذا يجب أن يكون، ولذلك فالحساسية من الثقافة والمثقفين عالية، حتى رويت كلمة خطيرة، ونُسبت إلى غير ما سياسي، وهي أنه يبحث عن سلاحه حينما يسمع كلمة ثقافة! ومن الطريف أن يشترك بعض الرجال في بيوتهم مع السياسيين في ذلك؛ فقد اشتكى لي أحدهم أنه حين تزوج؛ فجع باكتشاف أن قرينته مثقفة! ويبدو أن شهوة قمع أي اعتراض، سمة بشرية متأصلة إلا ما رحم الله.

ولأجل هذه المنزلة، كان المثقف خير عميل لتمرير الأفكار، والتهيئة لقرارات، وبث الأكاذيب، ونشر الروايات المصنوعة، والقصص المختلقة، على أنها وقائع ثابتة، كالشمس في رائعة النهار، نظراً لما يحظون به من مصداقية، ولأن الجمهور يجري خلفهم دون تفكير غالباً. وما أكثر ما سمعنا ممن يرجى منهم التعقل، جزماً بأمر بعيدٍ بله المحتمل، ومصدره كلام مكتوب في صحيفة، أو قول منطوق عبر قناة! ولذلك يُستثمر “المثقف” لتزيين أمر لدى صاحب القرار أو تقبيحه، أو لبثِّ معلومة في الأوساط الشعبية، وقمين بنا نزع القداسة عن غير المقدَّس، فلا عصمة ومرجعية مطلقة إلا للقرآن العزيز، وصحيح السنة المشرفة، فبعض “المثقفين” يتفاعل بمجرد القرص أو القبض، لأن الثبات مصيره القيد أو القبر!

ولا زالت الحقائق تكشف أن جزءاً من المثقفين، ليسوا سوى أجراء كنافخي الكير، أو نازحي القاذورات، ويتحركون بمقابل-مادي أو معنوي- أو بمقايضة، دون نظر في عاقبة، أو مضمون، فضلاً عن المصداقية، وقد يجتهدون فيفعلون أزيد مما قيل لهم، أو يلجون في منعطفات خطرة من تلقاء أنفسهم، وربما تطوع بعضهم بكتابة التقارير، وتقديم لوائح الاتهام، وتسطير قوائم المتهمين، وتزداد شراهتهم مع أي موجة “مكارثية” لإدانة خصومهم، وتصفية الحسابات، ولو بحمق وتناقض، ويتقمصون دور براقش التي أضرت بأهلها، بواسطة الفجور في الخصومة، وهدم الجسور، وتحطيم المشتركات، وقطع خطوط الرجعة!

ولم تسلم الجوائز الثقافية من العبث، فغدت مسرحاً لتلاعب أجهزة المخابرات والحكومات، ففتش دوماً خلف الأسماء الفائزة عن علة سياسية، أو تدخل مخابراتي، أو إصرار حكومي، والأمثلة على ذلك كثيرة، فكم من مرة ومرة تعجب المراقبون من الفائز بجائزة نوبل في الأدب أو السلام، وكم من جائزة منحت بتدخل يخرجها عن الحيادية والنزاهة، وتاريخ المخابرات الأمريكية غاص بأمثلة ملخصها الحرب من خلال الثقافة، ودفع أجرة الزمار ليعزف على الهوى الأمريكي.

وما أكثر الروايات التي نُفخ فيها، ونالت جائزة، وترجمت إلى لغات عدة، وتصدرت ملاحق الصحف، وتحولت إلى دراما، وهي تافهة بالمقاييس الفنية، بيد أن خلفها ما تنوء بحمله ثقيلات الجبال، والأمر ذاته ينسحب على النوادي القلمية، واتحادات الكتَّاب، ومعارض الكتب، ومهرجانات الثقافة، وما خفي أشنع.

وإذا كانت الشؤون الثقافية والفكرية عرضة لذلك المكر والفساد، فإن الأوسكار، والسينما، والدراما، وبرامج التلفزيون والإذاعة، ومقالات الصحف والمجلات، يتطرق إليها الخلل من باب أولى، فكم من مستضاف الأصل فيه أن يعاف، وكم من قلم منح عموداً، وهو يستحق الكسر، وتنال بعض الأفلام جوائز عديدة لمضمونها الموجه، وليس لإبداعها الفني، أو قيمها الإنسانية.

فما أوقحهم حين يمنحون جوائز الأوسكار لأفلام قتل، أو ترويج عنصرية واحتقار، وإذا رابك شيء من هذا، فنقِّب عمّا وراء صاحب الشأن، من خلال مراقبة اتجاه أشرعته، وتحديد محركات بوصلته، وحينها فقط ستحسن تقييم أقواله، وآرائه، وأعماله، وتضعها في موقعها الصحيح، وتحمي نفسك من السير خلفها بعمهٍ يصيب البصائر في مقتلٍ لا عزاء معه.

ومن أفضل معالجات عمليات إفساد الوعي، وإرباكه، وخلخلة الثوابت، ما قرأته عن سقراط أو أرسطو، وفحوى رأيه أنه لا يستغني عن أساتذة له، ويأخذهم معه إلى أي مكان، ويشاورهم في كل معلومة ورأي، وهؤلاء الأساتذة لا يكذبون، ولا يبخلون في العطاء، ولا يثقلون على حاملهم، ولا يموتون، ولا يضجرون من المتعلم، وهم باختصار أدوات الاستفهام من حروف وأسماء: هل؟ من؟ ماذا؟ لماذا؟ كم؟ كيف؟ متى؟ أين؟ أي؟ وغيرها.

وقد نقل لي زميل بأن وزير الصحة البروفيسور أسامة شبكشي، وهو من أفضل وزراء الصحة في تاريخ المملكة، وعمل وزيراً لفترتين من 1416-1424، كان يباغت كل من قدم له معلومة، أو فكرة، أو رأياً، بالأسئلة الاستفهامية، فمن استوعب الموضوع الذي جاء لأجله؛ يجيب غالباً بثقة، ومن تكلم من أطراف ذهنه، وملتقطات أذنه، وسرقات عينه، تبلبل وانكشف.

ومثله يُحكى عن الشيخ عبدالعزيز التويجري في مجالسه الثقافية والفكرية العامرة بالسياسة ومختلف الشؤون، حيث كان يخرج بالسؤال الحكيم عن الاضطرار للجواب، وينقل القول والرأي إلى ساحة جلاسه ومحدثيه، دون أن يُنسب له شيء، لحساسية موقعه في الحكومة. والحوار بالسؤال أسلوب إداري، وتربوي، مفيد للطرفين، وللحقيقة.

إن إثارة تساؤل واحد وجيه ومحرك للأذهان، يكاد أن يكون أفضل مئة مرة، من التبرع بمئة جواب، لأن الإجابات الجاهزة، والتعليلات المعلبة، تنتج معلومة، ولا تحرك فكراً، مالم تُباحث وتناقش، وأما السؤال والتساؤل، فإلقاء حجر ضخم، في بركة ماء راكدة، وسينجم عنه قول، وقول على قول، ورأي باتجاه رأي آخر، ونقد يعقبه ردٌّ، ونقض يتبعه إثبات، وربَّ سؤال جر معه سجالات وإشكالات، وقاد التعمق فيها إلى حل مشكلات ومعضلات.

ومن الأساتذة الخالدين للوعي، استخدام التقابل، والتعارض، والتناقض، والتناظر، وعكس الحال، وعقد المقارنات، والرؤية من غير ما زاوية، وجمع المختلفين، وتفريق المتماثلين، وفرز المركب إلى أجزاء، ولملمة الأجزاء في صورة كاملة، فلربما كان الجزء مبهماً في حدِّ ذاته؛ بيد أنه يبدو كالقمر ليلة البدر حين يضم إلى غيره من أمثاله، لتتضح باقي المعالم، وكامل الرواية، ويكون التحليل منسجماً، والشرح يطول، وليس المقام مقامه.

وأفضل حماية لأجيالنا من الالتحاق بمافيا الجرائم كالمخدرات وعصابات السرقة، أو الانزلاق في بؤر الغلو، ومستنقعات الإلحاد والفساد، يكمن في رفع الوعي عندهم، وتحريك الذهن للتفكير، والاستنتاج، ويتأتى ذلك بالحوار المفتوح الصريح، وقراءة التاريخ، ومحاولة ربط الأحداث بعلل، وتفسير المواقف بمصالح، وتدريب الأجيال على الخطابة والكتابة؛ فهما من أسباب الاجتهاد في التفكير، وخدمة الوعي، ورفعه، وتجويده.

وهذا من خير ما نخدم به بلادنا، وأمنها، وتنميتها؛ حتى يكون الأكثرية على بصيرة وحذار من أي مشبوه، أو شبهة، أو شهوة يعقبها شر مستطير، فالوعي أكبر مقاوم للانحرافات أيَّاً كانت، وتعزيزه يبني الممانعة الناضجة، ويكرّس المفاهيم الكبرى، ويحول دون التسطيح والتشتيت والتزييف، وهي من أمهات الخبائث الفكرية والثقافية، التي بزوالها يقوى نسيجنا الداخلي، فلا نصدق أي قول أو تعليل؛ خاصة ما يفوه به المجاهيل، والنكرات، والمرتزقة.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الإثنين 23 من شهرِ شوال عام 1438

17 من شهر يوليو عام 2017م

 

 

 

Please follow and like us:

6 Comments

  1. السلام عليكم
    تعليق بسيط
    ورد بالمقطع السابع .. كالشمس في رائعة النهار
    والصواب .. كالشمس في رابعة النهار
    وان شئتم .. كالشمس في كبد السماء .

  2. لا يفضض الله فاك أبا مالك ..

    وإذا كانت تركة المثقف ثقيلة، وأمانته عظيمة، فأي شيء ينتظر من ورثة الأنبياء، الموقعين عن رب الأرض والسماء.
    والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)