سير وأعلام عرض كتاب

عبدالرحمن بن قاسم ومفاخر إثرها مفاخر!

عبدالرحمن بن قاسم ومفاخر إثرها مفاخر!

إن حفظ الأخبار وتدوين السير ورواية التاريخ مكرمة بحد ذاتها، فإذا كان المكتوب عن عالم عامل فالفضيلة فيه زائدة، وإذا كان المترجم أبًا قريبًا أو بعيدًا فذلكم العمل الذي يضم البر والعلم معًا، وهو ما اجتمع في كتاب عنوانه: الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله (1312-1392) حياته وسيرته ومؤلفاته، إعداد حفيده د.عبدالملك بن محمد بن عبدالرحمن القاسم، وصدرت طبعته الثانية عن دار القاسم عام (1435=2014م) ويقع في (349) صفحة.

يرجع سماحة الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن قاسم العاصمي القحطاني إلى بلدة القصب من إقليم الوشم الموطن الأصلي لهذه الأسرة العريقة التي انتشرت بعد ذلك في ديار نجدية كثيرة ومنها البير التي استقرت فيها أسرة الشيخ المترجم، وإليها يعود هذا الفرع المبارك من تلكم الشجرة الطيبة.

أما والدته فهي المربية الكريمة هيا العباد التي أقرأته القرآن، ودفعته لطلب العلم، وأنفقت عليه من الأموال دونما تقصير، وعاش الفتى طفولته وشبابه في بيت محاط بالتقوى والصلاح، والحرص على القرآن الكريم تلاوة وحفظًا، ولذا أتم حفظه وهو دون العاشرة، ثمّ ارتحل إلى الرياض ودرس على أكابر علمائها مثل المشايخ عبدالله بن عبداللطيف، وعبدالله العنقري، وسعد بن عتيق، وحمد بن فارس، وغيرهم، وإن التربية الأسرية القويمة، ومعايشة أهل السمت والفضل، لمن أعظم أسباب بناء الشخصية الزكية المؤثرة.

وصار ابن قاسم مثار الإعجاب بين جلاسه وزملائه، ويبدو لي أن هذا يعود لنباهته وتعمقه في قراءة تراث شيخي الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إضافة لتضلعه في علوم الأصول والعربية، وأخذه بطرف غير يسير من علمي التاريخ والبلدان، ومتابعته لأخبار المجتمع والسياسة، مع قوة في الحفظ، وسرعة في الفهم، وبصيرة في الوعي، دونما غرور، أو غطرسة.

للشيخ مؤلفات كثيرة تتجاوز عناوينها العشرين، ويقترب مجموع مجلداتها من المئة، وتقف على رأسها بشموخ وضياء فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدًا، وهو أحد أعظم الأعمال العلمية في القرون المتأخرة، وتسابق لطباعته ملوك السعودية، إذ أنه أعظم عمل علمي يُفاخر به كما قال الشيخ بكر أبو زيد آل غيهب، وغدت هذه المجلدات نعم الزاد لطلبة العلم في مشارق الأرض ومغاربها، وحميت من العبث بأمر ملكي يمنع التصرف فيها دون إذن من رئاسة إدارات البحوث العلمية بالمملكة.

وفي سبيلها قضى الشيخ أزيد من أربعين عامًا في تتبعها وجمعها وترتيبها بمعاونة نجله محمد الذي أكمل العمل بفهرسة كاشفة، وسيكون لهذا النجل البارز مقالة أخرى بإذن الله، وأما والده فيكفي أن نتصور أنه شرع في عمله بالفتاوى وهو دون الثلاثين وفرغ منها وهو يعانق السبعين، وعانى لأجلها من سفر وغربة ومرض واستغلاق خط شيخ الإسلام، ولم يتقاضَ لنفسه أو لابنه رياًلا واحدًا، وزاد أن تحاشى أيّ لقاء يخصُّ الفتاوى وفيه رائحة الدنيا أو أهلها.

ولم يثقل الشيخان الأب والابن الفتاوى بالحواشي كما يفعل بعض المعاصرين لدرجة الافتتان المزعج أحيانًا، وكانت حجة الشيخ محمد أن الذهب المصفى الخالص لا يحتاج إلى تلميع. ومن جهود الشيخ العلمية دأبه أربعين سنة في تأليف حاشية الروض المربع، ثمّ يعتذر بالتطفل على هذا المرجع الفقهي الحنبلي! وجمع رسائل علماء نجد بعد مراجعتها لأزيد من عقد، وكتابة حواشي مميزة أو غير مسبوقة على كتاب التوحيد والأصول الثلاثة والآجرومية، وعقب ذلك كله يرفض الإفتاء، وينأى عن القضاء، مع أنه صرم عمره بين العلماء والمكتبات والمخطوطات، وصار بصيرًا بفقه أحد أعظم علماء الإسلام وتراثه؛ فلم تعظم لديه نفسه، أو يدركها العجب البغيض.

كما أن الشيخ لا يكتب مقدمات طويلة لأعماله العلمية التي ربما يخلو بعضها من مقدمة، ويحرص على تحري الدقة والأمانة فيما ينقل أو يكتب، وقرأ جلّ مؤلفاته على علماء كبار، وغادر الدنيا بعد أن سوّد أربعين ألف صفحة بمداد من نور يقوم عمادها على قول الله سبحانه وتعالى، ثمّ على أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة والتابعين وسادات الإسلام من العلماء والحفاظ والعباد، ولعمر الله إن هذه لأعظم النفائس وأكبر المفاخر التي تذوب أمامها زينة الحياة الدنيا.

بينما اشتهر الشيخ بالتعفف عن المال العام حين كان موظفًا في الحكومة، وعن أموال الناس إذ يتفقد صناديق منتجات مزرعته ليتأكد أن جودة أسفلها تماثل جودة أعلاها، ويسرع إلى عون ذوي الحاجات ومن أصابت مزارعهم الجوائح، وحين جُفي الشيخ حمد الجاسر وجد اللطف والرفق من الشيخ عبدالرحمن، وذكر الجاسر بأنه استفاد علم التاريخ منه، ورُوي عن ابن قاسم ترشيحه الجاسر ليخلف الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كان من أسنان المترجَم ويصفه بأنه شيخه مع أن الشيخ القاسم لم يقرأ عليه.

وكان الشيخ ابن قاسم يناصح المسؤولين والملوك بالمكاتبة، ولا ينتظر من أحد جوابًا على رسائله التي يكتبها براءة للذمة ونصيحة للأمة، وزاره الملك سعود في بيته الطيني بمزرعته في العمارية، واقترح عليه أن تبني له الحكومة بيتًا أحسن من منزله المتواضع جدًا، فأجاب الشيخ الملك بقوله: قد بنيت لي دارًا وأنتظر الرحيل إليها، وإنما يقصد الدار الآخرة، وأشار الشيخ الأب على ابنه الشيخ محمد برفض منصب وزير العدل قبيل إنشاء الوزارة.

أيضًا من صفات الشيخ سرعة المشي فلا يسبقه أحد إلّا إذا اضطر للتوقف من أجل سجود التلاوة، وتعمده ألّا يشق على أحد في ضيافة أو زيارة؛ بل كان يزور طلابه ويراعي أحوالهم، ولا يلوم أحدًا، ويلتمس العذر لبنيه وغيرهم، ويأكل مع عمال المزرعة ويحنو عليهم، ويرفض أن يقبل الآخرون رأسه، وهو كثير الشفاعة والنفع، ولذا كان محبوبًا، ليس بينه وبين أقرانه فضلًا عن سواهم مجافاة أو خصومة، ولا يخلو حديثه من فوائد، وطرف، ومراعاة لمقتضيات المقام.

وقد بارك الله له في أملاكه، فصارت أمواه مزرعته عذبة، وثمارها كبيرة الحجم، وأخلف الله عليه ما أفسده البَرَد وهو الذي لم يزد على أن قال حين علم بهلاك ثماره: يخلف الله! وسرت البركة في ذريته من أبنائه الصلحاء العلماء الحفظة المنفقين، ثمّ توارثها هذه البركات جيل من الأحفاد يزيد عن ثلاثمئة، فيهم علماء وخطباء وأئمة وحفظة؛ حتى أن بعض مشايخ الشريعة يطلق عليهم وصف السلسلة الذهبية، وصدق فتلك ذرية بعضها من بعض.

من أعجب شأن الشيخ أنه يعدل بين أبنائه حتى في دخول منازلهم، ولا يكف عن قراءة القرآن وختمه مرة كل أسبوع، وعشرين مرة في كل رمضان، ومع أنه حافظ ضابط إلّا أنه يشتاق لرؤية حروف المصحف الشريف، ويحيي الليل بالقيام، ويحافظ على ساعة الإجابة يوم الجمعة قبل الغروب، وقبيل وفاته رأى في منامه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية وهم يقدمانه للصلاة فيهم، وحين أجاب داعي الله في اليوم الثامن من الشهر الثامن عام (1392) نعته الإذاعة السعودية، ومثله جدير بأن يُفتقد وينعى.

هذا شيء من خبر إمام عالم عامل، قد لا نجد له صورة واحدة، بيد أن ثمار غرسه اليانع شرقت وغربت، وحفظت لنا كنوزًا من العلم أجلّها فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية التي بقيت متفرقة ومبعثرة ستة قرون حتى قيّض الله لها ابن قاسم ونجله، فارتبطا بعمل عظيم، مع رجل عظيم، في علم عظيم، فخلدا وذكرا، والله يجعل لهما ولمن أعانهما من الأجور مثل ما لشيخهما الذي كان حجة في حياته، وبعد مماته، وإلى أن يرتفع العلم من الأرض.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 09 من شهرِ شعبان عام 1441

02 من شهر أبريل عام 2020م 

 

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)