كورونا وتصحيح البوصلة
أصيب العالم على حين غرة بوباء لم يحسب له أيّ حساب، فغدت الدنيا خواء بعد أن كانت عامرة، وتوقفت جلّ الحركات بعد أن كادت ألّا تسكن، وعجزت الوسائل العابرة للقارات عن النهوض من مرابضها، فسبحان من هذا شيء يسير من أمره وقدرته وتدبيره، ولله الحكمة البالغة، فلربما أن الإنسان بلغ في العتو مبلغًا بعيدًا ولا مناص من إيقافه على حقيقة نفسه وضعفه وأنه مربوب محكوم.
ولهذه النازلة فوائد لتصحيح المسار وتعديل بوصلة الحياة على مستوى الأفراد والمجتمعات والحكومات، ومن شبه الحتمي أن ما بعد كورونا سيكون مختلفًا عما قبلها في الأنماط والنظم وترتيب سلم الأولويات فضلًا عن مكانة الدول وقوتها، ومستوى الاستعداد فيها والشفافية وقيمة الإنسان، ومدى التطور الصحي والعلمي وغير ذلك مما لا بد منه بقوته الذاتية، أو بالضرورة التي سيفرضها كورونا حتى حين يرحل.
من ذلك أن مصطلحات التغيير، والتكيف، والاستعداد، والاستشراف سوف تنتقل من وعائها النظري إلى تطبيقات عملية أو هكذا يجب، فدوام أيّ حال هو من الاستحالة بمكان، وأعقل الخلق من استعد بعد أن يستشرف، ويوطن نفسه على أيّ وضع كي لا ينقرض بسبب انغماسه في بيئة لدرجة الالتصاق وصعوبة الانفكاك عنها؛ فالرفاهية لا تدوم، وخشونة الحياة تمنع من التذمر عند الخلل.
كما أفادتنا هذه النازلة بترسيخ مفاهيم أوشكت أن تضيع في أمواج مادية الحياة، منها أن الأسرة هي الدرع الحصينة والملاذ الآمن للإنسان، وأن البيت والمسكن أحسن موضع للمرء وأسلم له من أيّ منطقة أخرى، ومن أجلّها وجوب مراعاة حق المجتمع والناس، فمع أن نفس الواحد أولى عليه إلّا أن حق المجموع والمجتمع معتبر وله المراعاة والتقديم أحيانًا، ولذلك كانت غاية التزام البيوت حماية الفرد والمجموع والبيئة.
ثمّ أوقفتنا هذه الأحداث على واقع جعلنا نميز ما هو المهم والأكثر أهمية أو الأقل، وكشفت لنا عن فوائد التقنية في غير ما كنا نكثر استخدامها فيه، وعرفتنا ما هو الزائد الذي يمكن التخلّص منه بل والتافه الذي لا داعي له في أحوال السلامة بله الأحوال الاستثنائية، وتجلىّ ذلك في قصر المصروفات والأنشطة على ما لابد منه للحياة والأمن والعلم والإيمان، والزهد فيما عدا ذلك من أشياء ربما تسرب إلى بعض الأذهان ركنيتها في المعيشة وهي عهن منفوش وهباء منثور.
بينما جعلتنا الكورونا في حال وحدة مثالية لا تكاد أن تجد العين فيها ملاحظة مختلفة، وصارت المجتمعات والدول متشابهة فيما تصنع، واقتربت الحكومات من شعوبها والعكس، وأصبح الاقتراب أكبر كلما كانت التصريحات شفافة واضحة، والتعليمات ذات نسق ليس فيه تباين غير مفسر، واتضح مستوى الوعي وربما ارتفع مع هذه الأزمة، ومن لوازم الوعي الحذر المستمر، والله يعجل بالفرج.
ومما أظهرته لنا هذه الواقعة المفاجئة قيمة أهل العلم والتخصص، وضرورة تقديمهم على غيرهم فحين الملمات لن نفزع بعد الله إلّا لذي علم أو رأي أو قوة أو مال، وغير التقديم بدا للكافة ضرورة إلجام الأدعياء وناشري الإشاعة أو من يتحدث في أمر لا يعرفه أو لا يحسنه، وإن كان الحديث هنا عن الطب فمثله يقال عن علوم الشريعة والاقتصاد والسياسة وغيرها مما يمس مصير الناس في حياتهم وآخرتهم.
أيضًا أبانت هذه الفيروسات التي لا تُرى بالعين مركزية مقاومة الفساد الإداري والمالي بمعناه الشامل ولغايات إصلاحية خالصة مستمرة لا تنقطع، فماذا عن المشروعات والخطط والأموال ومستويات التنفيذ والكفاءة والاستعداد؟ ويشمل هذا السؤال جميع مجالات الإدارة وليس الشأن الصحي فقط، حتى لا نصير فريسة للأزمات التي تكشف بعض المخبوء، وتسكت عن بعض، وإن كانت الصورة بمجملها قابلة للتركيب من ظهور أجزائها، فهل سيكون للمحاسبة من العمومية، والديمومة، والصرامة، والمنهجية، والوضوح، ما يجعلنا نؤوي باطمئنان إلى ركن شديد؟
ومع أن فعل الأسباب واجب لا محيد عنه، وهو محل عناية كثير من العاملين المرابطين خلال المحن والنوازل حمانا الله منها، إلّا أن ذلك لا ينسينا ضرورة الالتجاء لله ربنا بالصالحات والدعاء والاستغفار والصدقات والتوبة وصنائع المعروف والكف عن الإثم والظلم، فإن البلاء العام يحتاج إلى توبة عامة، ومن البلاء مع البلاء تزهيد بعض المفتونين بهذه المعاني مع أن قدواتهم في أمريكا وأوروبا على وشك الإيمان وارتداء لباس الأحبار والرهبان، والنطق بكلام الأديرة والكنائس، بيد أن منافقينا يستكثرون علينا أن نعود لربنا…!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 27 من شهرِ رجب عام 1441
22 من شهر مارس عام 2020م
2 Comments
عنوان رائع جدا…
ومعبر يحمل معنى واسع
حيث ان العديد من البوصلات تحتاج الى تصحيح
على مستوى الأفراد
والمجتمع والعالم
والمسلمين بوجه الخصوص …
ودوما ما ادعو الله
انه بعد جلاء هذا الوباء
ستظهر لنا حكمة الله
ونقول الحمدلله…
الموضوع
تحدث عن نقاط هامه
بارك الله بوقتك وبعملك
استاذ احمد
لعلى كنت احدث نفسي
وانا اطلع على مقالكم
وأقول:
لو ان كل من كتب وصل الى هذا المستوى الراقي
الذي يخاطب العقل
الذي كرمنا الله به
لكانت الانسانيه كافه بخير…