قراءة وكتابة

قصاصات الحياة!

قصاصات الحياة!

كنت أستمع إلى تسجيل صوتي من برنامج جميل في تلفزيون الأردن اسمه “هذا أنا”، ومن أوائل حلقاته التي أنهيتها لقاء مع الإعلامي القديم إبراهيم شاهزاده، ومما ذكره أن حفيده وسميّه سأله ذات يوم: هل لك جد يا جدي؟! فقال الجد: نعم، ثمّ سأل الحفيد: وهل لديك صورته؟ فأجاب الجد: نعم، وذهب إلى مستودع قديم لأوراقه كي يبحث عن الصورة، فوجدها وعثر معها على قصاصات قديمة كان يكتبها فيما يشبه المذكرات اليومية، وعليها بني كتابه “من دفتر الذاكرة”.

لا يخلو إنسان من مواقف أو قصص وذكريات وأحداث، وإنما يعود تأخرنا في التدوين والكتابة لثلاثة علل يرجع إليها غيرها، وهذه العلل هي:

الأولى: الظن الخاطئ بأن كتابة السيرة الذاتية أو الذكريات أو اليوميات مقصورة على عظماء الناس من العلماء والأدباء والمفكرين والزعماء والساسة والأثرياء وغيرهم من أصحاب التأثير.

الثانية: التأجيل والتسويف فتضيع منا ميزة التوثيق وحفظ التواريخ والتفاصيل وأبطال الرواية وكامل القصة وحرارة المواقف.

الثالثة: انتقاص المرء لقدراته الكتابية، وخوفه من الانتقاد لوجود أخطاء لغوية أو أسلوبية أو غيرها.

ولم ينزل الله من داء إلّا جعل له دواء أو أكثر، وهذه الأدوية في متناول اليد غالبًا، ويمكن إجمالها فيما يلي:

الأول: كتابة المذكرات ليست عملّا نخبويًا خالصًا، وليس من العدل أو المنطق جعل هذا الحق العام العام طبقيًا، فكلّ ذي تجربة جدير به نشرها إذا كانت نافعة للقراء، وإن حوت تفاصيلها مرارة أو آلام أو ما سوى ذلك من كدر الحياة.

الثاني: تعد الكتابة اليومية ولو لمدة عشر دقائق يومية قبل النوم طريقة مضمونة النتائج في الحفظ والتوثيق وكثرة الكم ثمّ جودة الكيف، وسيذهل المرء مما سطرته يداه بعد سنوات، ويجد فيها مادة ثرية، وربما يكون في بعض أخبارها قول فصل في منازعات أو خلافات تاريخية، ومن نعمة الله أن التدوين متاح الآن يدويًا أو عبر أجهزة ذكية بحجم اليد أو الجيب أو الحجر، مع إمكانية التسجيل صوتيًا أو كتابيًا.

الثالث: تتابع الكتابة مع كثرة القراءة كفيلان بترقية الأسلوب وتحسينه، وفي خدمات التحرير والتنقيح والمراجعة ما يصلح الخطأ ويسد الخلل ويكمل النقص، وهي خدمات مشتهرة عالميًا وعربيًا، ولا منقصة فيها أو مثلبة.

وبناء على ذلك سينتج من التزام أي واحد بهذه الطريقة فوائد من أهمها ثلاث هي:

الأولى: تنشيط القدرات العقلية في الحفظ والتعبير والتحليل والتركيز مع مهارة إدارة الوقت والحياة.

الثانية: اكتساب المدون للمرجعية خاصة في المسائل التي أجاد متابعتها، ولنا في الجبرتي والمميز والخويطر والعبودي وغيرهم من أصحاب اليوميات خير مثل، ومن اللافت أن بعض الأخبار تبدو غير مهمة في ساعتها، ثمّ تغدو نفيسة بعد زمان، وستعظم قيمتها مع وجود الصور ورصد المشاعر وتفاعلات الناس.

الثالثة: إحسان من الإنسان على نفسة بإطالة عمرها وإبقائها في الذاكرة، وإفضال على المكان والزمان وأهلهما برواية طرف من تاريخهما ضمن حرز أمين لا يضيع ولا يحرّف بإذن الله.

وقد حفزني لكتابة هذه المقالة ما في فكرتها القديمة من تخليد المكرمات والمآثر والأعاجيب التي ربما تغيب بفناء رواتها، ولأن التدوين يرفع من سقف المهارات الكتابية التي تقود إلى توسيع نطاق المعرفة، وعلو مستوى الوعي، وزيادة الجدية والتحري، ولربما أن أوقات الناس سوف تصبح متاحة مع الخوف الحاصل من انتشار وباء الكورونا أجارنا الله ومن يقرأ منه.

هذا غير أني فيما مضى سمعت قصصًا وأعاجيب من طيار سابق، ومن أكاديمي شارك في تأسيس كليات وجامعات، ومن مسفار صادف في كثير من رحلاته أنه يحط في مطارات خلال أول يوم من افتتاحها، ومن مرضى شفاهم الله، ومعدمين أغناهم، وآخرين رزقوا الذرية، أو شاركوا في أعمال مميزة، أو واجهوا مواقف نادرة، أو عاشوا تجارب خاصة ناجحة أو فاشلة، سعيدة أو حزينة، وما أحوجنا للروايات الموثقة فنحن أمة تفتخر ضمن مفاخرها العظمى بالإسناد والرواية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 20 من شهرِ رجب عام 1441

15 من شهر مارس عام 2020م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)