سير وأعلام عرض كتاب

الأعمال الكاملة لشيخ الزَّيتونة والأزهر

  الأعمال الكاملة لشيخ الزَّيتونة والأزهر  

أعياني البحث قبل بضعة عشر عاماً عن كتاب (رسائل الإصلاح) للإمام التُّونسي الكبير محمد الخضر حسين-رحمه الله-؛ بعد قراءة كلمات منها في كتب العلاّمة الشَّيخ بكر أبو زيد آل غيهب-رحمه الله-، إلى أن دعاني شقيقي الأكبر عبد العزيز -رعاه الله-إلى مأدبة عشاء عام 1418 على شرف النَّاشر المصري الشَّيخ حسن عاشور-رحمه الله-، وجرى الحديث بيني وبين فضيلة النَّاشر المجاهد عن  هذا الكتاب النَّفيس، فأخبرني أنَّ دار الاعتصام التي يملكها ويديرها قد طبعته؛ ووعدني بنسخة منه.

وبعد عودته لمصر بعث لي الكتاب ومعه محاضرة مطبوعة للمؤلف بعنوان الحرية في الإسلام، وتكاد أن تكون أهم محاضراته، حيث ألقاها عام 1324 وبلاده ترزح تحت الاحتلال الفرنسي البغيض! فاللهم اغفر لأموات هذه المقدِّمة وارفع درجاتهم، واحفظ الأحياء واستعملهم في طاعتك.

وقبل أربع سنوات-أي في المحرَّم من عام 1428- كتبت مقالة بعنوان أبناء الأكابر والمسؤولية، وتقوم فكرتها على ضرورة اعتناء أبناء أكابر الأمَّة وطلابِّهم بتراث هؤلاء العظماء حتى لا يضيع؛ وتستمر منفعته للأجيال المتعطِّشة للصدق والإخلاص، وما أوضحهما في الأموات خلافاً للأحياء الذين لا تؤمن عليهم الفتنة، وورد في تلك المقالة نصَّاً:” وقد هيأ الله لمؤلفات العلامة محمد الخضر حسين- الذي مات بلا عقب- المحامي الأديب علي الرضا الحسيني فنشر جلها”، وهاهو المحامي الأديب البارُّ بعمِّه وأمته يعود لجمع أعمال الإمام في موسوعة واحدة.

والشَّيخ الخضر عَلَم من أعلام الدَّعوة والإصلاح، وقد اشتغل بالتَّعليم والجهاد، وتكوين الجمعيات المدنيّة، وإصدار المجلات العلميّة والدَّعوية ورئاسة تحريرها، وتحمَّل مشقَّة الكتابة نثراً وشعراً للعرض أو الرَّد؛ وللنَّقد أو النَّقض، وله عناية فائقة باللغة العربية وعلومها ممَّا أهلَّه لعضوية المجامع العلميّة واللغويّة في القاهرة ودمشق، وهو صاحب أسفار ورحلات مدَّونة، وقد ألقى عدداً من المحاضرات والخطب وعمل قاضياً فترة وجيزة؛ وهذا من بركة العمر حين يصرف في معالي الأمور.

ولما وقع الاختيار على الإمام شيخاً للجامع الأزهر في الثَّاني من شهر الله المحرَّم عام 1372 جعل كتاب استقالته من مشيخة الأزهر في جيبه ليقدِّمه إن شعر بضعف في موقفه! ولم يبق في المشيخة إلاّ ستة عشر شهراً ثمَّ استقال منها بعد أن أحسن خلالها البلاء؛ وله إذ ذاك مواقف خالدة يحنُّ الأزهر وجوامع المسلمين الكبرى إلى مثيلاتها.

صدرت هذه الموسوعة من دار النَّوادر بطباعة جميلة على ورق نباتي، وتقع في خمسة عشر مجلَّداً من القطع الكبير، وعدد صفحاتها (7698) صفحة، ولكلِّ جزء ترقيم خاصٌّ به؛ وآخر متسلسل مع ما قبله، ولكلِّ كتاب مستقل ضمن المجلَّد الواحد فهرس بمحتوياته؛ ثمَّ فهرس مرتبط بالموسوعة كاملة، وليت أنَّ جامعها كتب على واجهة المجلَّدات ما تحتويه من تراث الإمام حتى يعين القارئ على بلوغ مراده.

كما حفل المجلَّد الأخير بالشَّهادات والوثائق والملتقيات الخاصَّة عن الإمام الخضر إضافة إلى صوره الفردية والثُّنَّائية والجماعية مع أعلام العصر حينذاك، بينما احتوى المجلَّد الأول على نبذة عن الشَّيخ وتعريف بالجامع الفاضل ثمَّ ابتدأ عرض تراث صاحب الموسوعة بأسرار التَّنزيل وتفسير بعض آيات الذِّكر الحكيم، ثمَّ سرد مؤلفات الإمام فكانت السِّيرة النَّبويّة في المجلَّد الثَّالث، ونقض كتاب (في الشِّعر الجاهلي) في المجلد الثَّامن، وفي المجلَّد التَّاسع نقض علمي لكتاب (الإسلام وأصول الحكم).

وتقع رسائل الإصلاح في المجلَّد الخامس من الموسوعة، وإلى جوارها كتاب الدَّعوة إلى الإصلاح، وهذه المقالات من أجلِّ ما سطَّره يراع هذا العالم الكاتب، وكانت مقالاته هذه مائدة عذبة للمؤلِّفين والكتَّاب ينهلون منها ويستفيدون، وأيضاً للخطباء الكبار الذين يعتنون بخطبهم ومستمعيهم، وقد سمعت اقتباساً من كلام الشَّيخ الخضر في بعض خطب الحرم، وهذا من فضل الله على هذا الإمام الذي رحل من دنيا النَّاس بلا عقب ولا ولد؛ بيد أنَّه ترك علماً متينا، وكلاماً رصينا، وأفعالاً سامية آتت أكلها وأينعت ثمارها.

ومن الموافقات أنَّ والدة الشَّيخ كانت تدعو له شعراً بالذَّهاب إلى الأزهر وهو ابن سنة واحدة؛ وقد أجاب الله دعاءها وصار وليدها شيخاً للجامع الأزهر، وكانت هذه الأم-رحمها الله- مباركة إذ تلَّقى عنها ابنها كتاب الكفراوي في النَّحو، وكتاب السفطي في الفقه المالكي؛ فأين منها نساء اليوم؟! وقد احتفت تونس بعالم الزَّيتونة وشيخ الجامع الأزهر وأقامت ملتقيات عنه ولست أدري لو أنَّ الشَّيخ المناضل كان حيَّاً هذه الأيَّام هل ستحفل به تونس؟ أم يكون مصيره تهماً جاهزة بالإرهاب والتَّشدد؟ وإنَّ سيرة هذا العلم لتنادينا أن استحيوا الجوامع الكبرى واستعيدوا لها الحياة والمجد العلمي الباذخ، فأين جوامع الزَّيتونة والقرويين ودخنة والأزهر والأموي وصنعاء الكبير؟

وفي الإنتاج العلمي الغزير للخضر حسين رسالة صريحة لعلمائنا وأدبائنا ومثقفينا وكتَّابنا الذين يعنيهم شأن دينهم وديارهم والأجيال المعاصرة واللاحقة؛ وملخص هذه الرِّسالة أن ابذلوا الجهد واستفرغوا الوسع في نفع الأمَّة على كلِّ صعيد؛ وكلٌّ ميَّسر لما خلق له، ومن النَّفع المنشود أن يحفظ الإنسان أعماله الفكريّة ويعهد بها إلى مَنْ يبقيها مشعل هداية كما فعل المحامي الأديب علي الرِّضا وهو يدخل في عقده التَّاسع؛ أمدَّه الله بالصِّحة والعافية السَّابغة والحياة الهنيئة، وجعل الله منازل العالم العامل محمَّد الخضر حسين في عليين مع الكرام البررة الأتقياء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

الأربعاء 18 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1431

ahmadalassaf@gmail.com

Please follow and like us:

5 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)