مواسم ومجتمع

ثراء بسبب أرملة!

ثراء بسبب أرملة!

صلة الرحم، والإحسان للجار، ونفع الصديق، والعفو عن المخطئ، وإغاثة الملهوف، وإنظار المعسر، مفردات من سلسلة كريمة تُبقي المعروف فينا، وتزيد من مساحة التراحم والتلاحم التي تميز المجتمعات العريقة، وإن رواية قصصها، والثناء على أهلها يجعلها قدوة تحتذى، ويهبها حياة متجددة.

ومن أخص العلائق ما يكون بين الإخوة والأخوات، ذلك أنهم نسمات حفظها ظهر وبطن أو أحدهما، وجمعت بينهم أحداث وذكريات وآمال، ولفراقهم غصص مرة  لا تكاد أن تحتمل؛ فأي نازلة تعادل غياب رفيق المرابع والملاعب والمصاعب في الصغر والكبر؟

لذا تبرز في تراث العرب الشعري مراثي الإخوة مثل تفجع متمم على أخيه مالك، ونحيب الخنساء قبله على صخر أخيها، وكم ثارت من معارك بسبب مقتل أخ عزيز، ولعظم مكانة الأخ توجع الفاروق بعد استشهاد أخيه زيد رضي الله عنهما، وسرد د.جلال أمين في سيرته المكتوبة على الجبين مشاعر الكمد على موت إخوانه؛ فالأخ زينة في الرخاء، وسلاح في الشدة، والوصف يشمل الذكر والأنثى.

وهاهنا حكاية واقعية معاصرة، حدثت مع رجل بار قبل أزيد من نصف قرن،  إذ استضاف أخته الكبرى غير الشقيقة في بيته لأربعة عقود بعد ترملها دون ولد، وأشعرها أن المنة لها عليه بالسكنى عنده، وأبدى حرصه على الظفر بأخته دون غيره من أهلها، واجتهد في إكرامها، وتابع عودتها لمنزله حين تذهب لشقيقتها أو لأبناء شقيقتها؛ فالأخت قطعة نفيسة من قلب الأخ، وموقعها أثير رفيع، وما أعظم أجر كفالة الأرملة.

كما أظهر لها من التوقير والتودد وخفض الجناح ما جعلها كأنها والدته لمن لا يعرفهما، حتى شعر بنوه أنها لهم عمة وجدّة في آن واحد، وصار مقامها عندهم عاليًا بهاتين المرتبتين، وغدا إرضاؤها والتسابق لخدمتها طريقا للفوز برضا الأب.

وإبان رعايته العطوفة لأخته أصابها بقدر الله مرض غامض أنهك قواها، وسلب منها نور وجهها، ولم يترك الأخ الحنون بابًا لعلاج أخته الحبيبة إلا ذلل الصعاب لبلوغه وتجريبه، ومع حدبه ومحاولاته لم يجد لها العلاج الطبي الحديث أو الشعبي الذي يحمي صحتها، ويبقي على نضارتها، ويسعده بسلامتها.

فأهمه الأمر واستولى على تفكيره عدة سنوات، إلى أن رأى ذات ليلة في منامه أنه يلبس في معصمه ساعة أوميقا لا تعمل، فحاول إصلاحها عند صفّار، والصفّار هو من يلّمع دلال القهوة بيد أنه لا خبرة له بالساعات، ولم ينس هذه الرؤيا إذ قصها من فوره على زميله في العمل وهو ذو علم بتأويل الرؤى.

فقال له العابر: لديك في البيت امرأة مريضة غالية عليك؛ لكنك تذهب بها إلى مكان لا يستطيع علاجها، وإنما علاجها في مستشفى الشميسي-مدينة الملك سعود الطبية حاليًا-، وسبحان من جعل في الرؤيا الصالحة بشارة أو نذارة.

لذلك لم ينتظر الرجل فشفاء أخته هدف أساسي عنده؛ فذهب بها صبيحة الغد للمستشفى، ووجد فيه طبيبين عربيين أحدهما قديم معروف عيادته مزدحمة والركب عنده متصاكة، والآخر حديث القدوم ومواعيده متيسره والدخول عليه متاح؛ فاختاره استعجالًا لمصلحة علاج أخته، وفي خاطره أن يذهب للأول إن عجز عن تشخيصها الطبيب الجديد.

ففحص الطبيب الجديد المريضة، وأحالها للمختبر لإجراء تحاليل ضرورية، وطلب من أخيها أن يعود بعد يوم لمعرفة النتيجة، وهو ماكان إذ جاء يسعى في بواكير الصباح التالي لمقابلة الطبيب مصطحبًا معه أفخم وأغلى طقم أقلام موجود حينذاك في أوائل الثمانينات الهجرية، وأهداه للطبيب كي يزيد اهتمامه بأخته؛ مع أنه سيعالجها بدون هذه الأعطية، وإنما هو من باب مضاعفة الإحسان إليها.

ثم ابتهج الأخ الودود لما أعلمه الطبيب أن مرضها معروف اسمه (السكر)، وعلاجه مأمون متوافر يتناوله المريض بواسطة إبر الأنسولين مع بعض التحفظات الغذائية والنشاطات البدنية، وهو ما استمرت عليه أخته، ويا لسعادة أخيها وهو يراها تخطر أمامه، وتعيش حياة طبيعية مستعيدة ما فقدته من قوة ومنظر بهي، إلى أن توفاها الله وهي في بيته يحوطها بمشاعره وجوارحه وماله.

وأعانه على استمرار معروفه ومسلكه الطيب تجاه أخته زوجه المباركة وأولاده وبناته الأبرار، وما أسعد الزوجات بأزواجهن ذوي الشهامة والمروءة والفعال الحميدة لو فقهن ذلك وساعدنهم عليه، وابتعدن عن الشعور بالمحاصصة والغيرة، وعلمن يقينًا أنه لا خير في رجل يهجر أقاربه، أو يصدر منه عقوق وجحود وبخل، فضلًا عن أنّ أولاده سيرثون صنيعه وطريقته غالبًا، وستكون أمهم أكبر متضررة أو مستفيدة في مستقبل لا محالة آتٍ!

ومع كثرة مراجعة الرجل بأخته عند الطبيب العربي نشأت معرفة بينهما ثم توثقت واستحكمت، وحين استقل الأخير بعيادة خاصة يحتاجها السوق آنذاك اقترح على صاحب القصة فتح صيدلية أسفل عيادته؛ لأنه آنس منه الانضباط وتحمل المسؤولية وصدق الوعد، ففعل واختار لها اسمًا يصف العمل القلبي الصادق.

ثم تضاعف دخل الصيدلية مع الأيام بفضل الله، واستلزم ذلك التوسع، والتقاعد المبكر من العمل الحكومي للتفرغ لإدارة باب الرزق الجديد، ومن البركات المصاحبة لهذا التحول أن تخرج أنجاله في الجامعة بتخصصات طبية راقية، ولم يكن هذا الانقلاب الجميل في حسبان صاحبنا، فالعمل الصحي ليس من اهتمامه أو اختصاصه أو خبرته، وسبحان من يرزق من يشاء بغير حساب من حيث لا يحتسب.

رحم الله أبطال هذه الرواية الذين منحونا مثالًا نموذجيًا دون أن يشعروا، وجعل بر الإخوة بالأخوات والعكس ديانة نتعبد بها، وخلقًا كريمًا منتشرًا بيننا، وسمة مجتمعية تزيد ألفتنا وتماسكنا، وتحول دون حدوث شروخ في العلاقات الأسرية، أو جفاف في المشاعر، فإن هذه البلايا مدخل محبب لشياطين الجن، ولشياطين الإنس الذين يتربصون بنا الدوائر، ولا يرقبون في مجتمعنا إلّاً ولا ذمة؛ وكيف يفعلون وهم العدو؟!  وحقيق بنا أن نحذرهم حتى لايرجفوا بنا، ولا يجلبوا علينا بخيلهم ورجلهم وإفكهم المتصاعد الشرس.

أحمد بن عبدالمحسن العسّاف-آيدر

ahmalassaf@

الإثنين 18 من شهر ذي الحجة الحرام عام 1440

19 من شهر أغسطس عام 2019م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)