سياسة واقتصاد سير وأعلام عرض كتاب

العالم بعيون دبلوماسي سائح

العالم بعيون دبلوماسي سائح

تختلف نظرة الناس للسفر، وأكثرهم استمتاعًا من خرج من سفراته بفوائد وذكريات لا تنسى، مع معارف وصداقات تزداد متانة عبر الأيام، وفوق ذلك عاش مع البلاد التي يزورها وعرف تاريخها وعاداتها ومعالمها، ولم يعلق به شيء من أوزارها.

ومن متعة العمل الدبلوماسي الإقامة الطويلة في بلدان مختلفة شريطة أن يكون الدبلوماسي شغوفًا بالمعرفة وصنع العلاقات، تمامًا كما في كتاب عنوانه: العالم بعيون دبلوماسي، تأليف السفير د.محمود سمير أحمد، صدرت طبعته الأولى عن دار الهلال عام (١٩٩٦م) في قطع صغير من (٣٤٩) صفحة، ويتكون من مقدمة ثمّ عشرة فصول طافت بالقارئ عبر مساحات شاسعة من الكرة الأرضية، بلغاتها وثقافاتها ومناخاتها وأطعمتها.

وللمؤلف كتاب سابق على هذا، صدر عن دار الهلال عام (١٩٩٣م) بعنوان: حول العالم مع دبلوماسي مصري، وآمل أن أجد منه نسخة بعد أن قرأت الثاني، واستمتعت بأسلوب مؤلفه الذي لم يرزق ذرية بيد أنه ترك لنا آثارًا تحمل ذكرياته واسمه.

يتضح من الكتاب جدية الرجل إذ استثمر فترات الهدوء في عمله الدبلوماسي لدراسة الماجستير والدكتوراه، وأجاد الإسبانية والإنجليزية والفرنسية مع شيء قليل من التركية وكثير من الإيطالية، وأظهر الكتاب عمق تكوينه الدبلوماسي، وقدرته السريعة على التنقل، مع الملاحظة والذاكرة الممتازة وخفة الدم المستعذبة دون استهجان. ومن ذكائه إيراد الحوادث وترك تفسيرها للقارئ، فليس أمتع من خوض تجربة عمل السفير سوى سرد وقائعها بعد حين، والاستمتاع بذكرياتها كما يقول المؤلف في المقدمة.

لاحظ الكاتب كبرياء الإنجليز، وتمسكهم بالقديم، وندرة هرولتهم وراء الجديد، وهم آمنون في بلدهم لإحساسهم بقوة القانون حتى أن شرطة لندن لا يحملون الأسلحة، ولبلادهم طابع لايستهوي الزائر مباشرة لكنه ينفذ إلى أعماقه رويدًا رويدًا حتى يستولي على القلب بما فيه من هدوء وراحة واطمئنان.

وبسبب موقعها البحري سلمت من عدوان نابليون ومن اكتساح هتلر، ثم أصبحت بريطانيا سيدة البحار دون شريك قوي لمدة تزيد عن ثلاثة قرون؛ فلما بدأت بالانكماش والتقهقر نحو مرتبة متأخرة من التأثير خلف أمريكا الصاعدة بنشاط ونهم، حرصت لندن على حفظ كثير من توازنها ومكانتها، واستثمرت تاريخها، وعلاقتها مع أمريكا، ونفوذها في بعض البلدان، واستمرارها وجهة سياحية محبذة؛ لمنع انزلاقها من القمة نحو الزوايا الهامشية.

يمتاز الشعب البريطاني ببرودة الأعصاب والخجل، وابتعادهم عن التدخل فيما لا يعنيهم فعيونهم لا تتقلب، وآذانهم لا تسترق السمع، وهم أبعد ما يكونون عن التطفل أو الفضول، ويلتزمون بتهذيب دبلوماسي راق حرم منه زوج الملكة الأمير فيليب الذي تظارف غير مرة على دبلوماسيين عرب، وذات مرة بعد انفصام عرى وحدة مصر وسوريا قدّم المؤلف نفسه بأنه يمثل سفارة الجمهورية العربية المتحدة، فبادره الأمير بسؤال بعيد عن اللباقة: متحدة مع من؟

ويجزم كاتبنا بأن لندن مدرسة طيبة للدبلوماسيين الشغوفين بحرفتهم، فالصلة المباشرة مع موظفي الخارجية ورجال الصحافة والبرلمان تعد تجربة غنية بالفائدة، ولم تسلم فترته اللندنية من مواقف محرجة كملاحقة المتاجر لزوجة أو ابن أحد كبار المصريين بتهمة التهرب من سداد قيمة البضائع، أو طلبات سلفة مالية متكررة، وأغربها اتصال في وقت متأخر من شاب يطلب من الكاتب أخذه بجولة على معالم لندن لأنه سيواصل السفر صباح الغد!

وسميت بوليفيا على محررها سيمون بوليفار، بينما أطلقت الإكوادور اسم محررها سوكري على عملتها، ويعيش سكان بيرو في ثلاثة مجتمعات منعزلة عن بعضها، بينها هوة اقتصادية، وهوة اجتماعية، وهوة ثقافية ولغوية، وفي بيرو لغتان رسميتان هما لغة أهلها الكتيشوا ولغة المحتل الإسباني، وعلى أرضها عقد مؤتمر لما عرف بدول عدم الانحياز عام (١٩٧٥م) وهو أوّل مؤتمر يعقد في أمريكا اللاتينية، وفرحت الجاليات العربية في بيرو بسفارة مصر لأنها العربية الوحيدة، والتحموا معها لكن هذا الوداد فتر بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.

أما بنما فحديثة الانفصال عن جمهورية كولومبيا عام (١٩٠٣م)، وهدف فصل الجزيرة خدمة المصالح التجارية الأمريكية، وشعبها يفقد أصالة شعوب الدول اللاتينية وعراقتها ولايزال ينشد هويته، وفي بنما مزيج من عاطفة الكراهية والحب لأمريكا، وحكمها نورييجا العميل الأمريكي الذي انقلبت عليه واشنطن واعتقلته بتهمة تهريب المخدرات.

بينما يشتهر أهل شيلي بجمال البشرة لغلبة العنصر الأوروبي عليهم، وعاصمتها سانتياجو من أنظف عواصم أمريكا الجنوبية وأكثرها جمالًا، وفيها تمثال كبير للعذراء مريم عليها السلام يطل على المدينة التي يقول أهلها بأن التمثال هو العذراء الوحيدة في العاصمة! وتعد مركزًا صناعيًا متقدمًا في أمريكا الجنوبية، وهي بالمناسبة بقعة بعيدة جغرافيًا عن دول العالم.

وتسمى بوينس إيرس باريس أمريكا اللاتينية، وفيها منتجات زراعية وحيوانية ومعادن وهبتها الثراء والمنافسة على قيادة القارة، وتمثل الأرجنتين وشيلي وأورجواي وكوستاريكا أهم دول القارة اللاتينية التي خلت من الجنسين الهندي والأفريقي. وتشتهر الأرجنتين برقصة التانجو وصناعات جلود التماسيح، وبالعجول التي تمنع الحكومة ذبحها وبيع لحومها أسبوعين من كل شهر لأسباب اقتصادية.

ومع أن أورجواي صغيرة المساحة لكن قيمتها الديمقراطية كبيرة من الناحية السياسية والانسانية، وينتمي شعبها للجنس الأوروبي الأبيض، وأصل قيامها لتكون حاجزًا بين البرازيل والأرجنتين، ويغلب على أهلها سمات الاقتصاد والحرص ومقاومة الإسراف ويعود ذلك لأصولهم الاسكتلندية.

من لطائف الكتاب الماتع أن البرازيل نقلت عاصمتها من ريودي جانيرو إلى برازيليا لتنمية المناطق الداخلية وتعميرها، وفرارًا من طابع اللهو والمرح طوال العام في ريودي جانيرو مما لايشجع على العمل المثمر. وأبدى الكاتب إعجابه بجمال البرازيليات ورشاقتهن، وذكر أن أهلها خليط من أفارقة وبرتغاليين مع السكان الأصليين، وأكثرهم مزيج بين جنسين.

ومن الطريف أن سفير برازيليا في كانبرا بأستراليا وطد علاقاته مع سفراء المجموعة الأفريقية بحجة أن البرازيل بلد أفريقي، حتى أن رقصتهم الأشهر السامبا ذات منشأ أفريقي، وأما فنزويلا فشبيهة بدول الخليج على رأي المؤلف إذ انتقلت من بلد مراعي يعيش أهله قريبًا من الفطرة إلى بلد نفطي يلهث خلف الاستهلاك، ويثق السفير بأن الأجيال القادمة سوف تستعيد أصالتها ونبلها.

كما وصف الأمم المتحدة بأنها منهل ضخم لمن شاء من السفراء أن يستفيد ويوثق علاقاته، وفيها تخرج أبرز رجالات الدبلوماسية المصرية، وعدد منهم أصبحوا وزراء خارجية. ويوجد في نيويورك رابطة الأمم المتحدة مكونة من نساء ورجال أمريكان تقيم الصداقة والتعاون مع دبلوماسي الأمم المتحدة، وتأخذهم في زيارات ورحلات وحفلات.

وحين تفاجأ د.محمود بتعيينه سفيرًا في روما لم يضع الوقت فشرع يتعلم الإيطالية مع أنه كان يتمنى العمل في مدريد التي يجيد لغتها. وبين مصر وإيطاليا علاقات قديمة منذ احتل الرومان مصر لستة قرون أنهاها الفتح الإسلامي، وكانت مصر مقر منفى الملك الإيطالي، وبعد سنوات أضحت إيطاليا مقرًا لمنفى الملك المصري.

فإيطاليا أقرب بلد أوروبي لمصر جغرافيًا بعد اليونان، بيد أنها الأقرب لمصر روحيًا وخلقيًا، إذ يحب الإيطاليون المزاح والفكاهة، ويعبرون عن مشاعرهم بتحريك الأيدي، وهم كثيرو الصخب والضوضاء، وعندهم براعة في الفنون، ومع ميلهم للسلم إلّا أنّ لهم تاريخًا كبيرًا في الحروب، ويحسنون وفادة الغريب، ويطربون للألقاب والتفخيم.

وهم خليط من أجناس عدة، ويختلف سكان شمالها عن سكان جنوبها حتى قيل إن أوروبا تبدأ وتنتهي عند روما فمن جنوبها تبدأ أفريقيا، وتبدأ أوروبا من شمالها، وللمرأة مكانة فريدة في المجتمع الإيطالي، وتتميز العائلة الإيطالية بالتكتم والتكتل، مما أعاق مهمة الحكومة في تعقب المافيا، ويحمل كثير من سكان الجنوب الإيطالي صفات المجتمع العربي من كرم ونخوة وغيرة على الشرف.

لذلك يقترب المطبخ الإيطالي من ذوقنا الشرقي، وللمكرونة أهمية خاصة في المائدة الإيطالية حتى أن الحفلات التي تمتد لبعد منتصف الليل يضع الداعي لها مائدة أخرى من الإسباجتي فقط وغالبًا يصنعها المضيف، وقد جذبت آثار إيطاليا، وجمال مدنها، وأكلها الطيب، ومزاح أهلها عشرات الملايين من السياح سنويًا، فضلًا عن أن روما متحف مفتوح هذا غير متاحفها المغلقة التي تتجاوز العشرين، وفي إيطاليا أكثر من ستين كنيسة وكاتدرائية تزار، وتحتل الجبال ثلث مساحة البلد، وتهبه مظهرًا جماليًا وتنوعًا في التضاريس.

وحين زار السادات الفاتيكان أبدى البابا وسلطات الفاتيكان رضاهم عن سياساته السلمية تجاه إسرائيل، وفي زيارة رئيس وزراء إيطاليا لمصر غاب المترجم عن اللقاء الصحفي في المطار، فتولى السفير الترجمة لرئيسي الوزراء والصحفيين بأربع لغات هي العربية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية، وكان لموقفه هذا تأثيره الطيب على رجال الخارجية الإيطالية، وختم حديثه بمشروع طرق سريعة مقترح من إيطاليا يربط بين إيطاليا ومصر والسودان والسعودية .

وبنبرة تشوبها الحزن عقد مقارنات كلها لصالح إيطاليا في جميع المجالات، وليس هذا فقط إذ لاحظ بعد تجواله في أفريقيا أن بعض مدن أفريقيا حتى الفقيرة منها أكثر نظافة ونظامًا من القاهرة التي تساعدهم بالفنيين والخبراء والمحاضرين!

وللأفارقة ولع بالرقص كأنه يجري في دمائهم، وتنقلب حفلاتهم إلى رقص يستمر حتى مطلع الفجر، وأذكر نصًا لنحوي أندلسي اسمه ابن حبرون يقول فيه: لو سقط زنجي من السماء إلى الأرض لسقط بإيقاع وهو يرقص. ويتقن الأفارقة الرقص بخفة في أداء حركاته، وهم أساتذة لأمريكا وأوروبا، ومن عندهم هاجرت رقصة السامبا إلى البرازيل أو اختطفت مع سفن القراصنة البيض، وهي جريمة أوروبية خالصة طالما حاول مقترفوها إلصاقها زورًا بالعرب والمسلمين، ويروج إفكهم لدى بعض الأفارقة.

وفي المؤتمرات بلاجوس عاصمة نيجيريا ربما يخطف المغامرون حقائب أعضاء الوفود ويهربون بها، وتمتاز صحافة نيجيريا بالصراحة والتلذذ بإحراج الخصوم، ومن المواقف اللافتة أن وزير خارجية نيجيريا قال للمؤلف: إذا أردنا معرفة اتجاه السياسة الأمريكية نتابع وجهات الدبلوماسية المصرية، ونعوذ بالله من التبعية أو الاستقلال الناقص.

ولكثرة سكان نيجيريا، ووفرة نفطها، يُنظر إليها بأنها الأخت الأفريقية الكبرى القادرة والعاقلة، وفيها معهد للشؤون الدولية وأحيانًا يعين مديره وزيرًا للخارجية. وأنهى الدبلوماسي الأديب جولته الأفريقية بالحديث عن جنة موريشيوس وإقبال السائحين عليها لجمالها ورخص أسعارها، وسياسات حكومتها الانفتاحية الحكيمة.

بينما خصص فصلًا لأثيوبيا، فأديس أبابا هي نيويورك أفريقيا، ويقترب شعب أثيوبيا من طبيعة الإنجليز في الهدوء والأدب والسيطرة على الأعصاب، وليس في ثقافتهم مصافحة يدوية أو تقبيل الخدين، ومع سيطرة النظام الماركسي المعادي للأديان إلا أن الشعب الأثيوبي يحافظ بشدة على تقاليده الموروثة، وهم متدينون سواء أقباطهم المتأثرين بالكنيسة المصرية، أو المسلمين الذين تبلغ نسبتهم ٤٠٪؜ وربما أزيد، وتتشابه شعوب أثيوبيا والصومال وأريتريا بتقاطيع الوجه الدقيقة الجميلة المنتمية لآسيا أكثر من أفريقيا، ومن المفارقات أن هذه الشعوب الثلاثة في خصام مستمر، والله يصلح بينهم على خير.

وفي فيجي أقيمت فنادق فخمة وقرى سياحية ضخمة لخدمة السائحين من أستراليا ونيوزلندا؛ ففتحت أبواب العمل لآلاف من أبناء فيجي التي هاجر لها الهنود وسيطروا على التجارة فيها، بينما اختص السكان الأصليون بالسياسة، وحين تزايد عدد الهنود دخلوا المعترك السياسي وفازوا بالانتخابات، بيد أن الجيش المكون من أهل فيجي الأصليين فقط لم ترق له النتيجة، فانقلب على الحكومة ذات الأصل الهندي وأعاد الحكم لسكان الجزيرة، ولم يحرم الهنود من سيطرتهم على التجارة.

ولتقديم أوراق اعتماد السفير مراسم وطريقة في اللباس يُعفى منها السفير حسب تقاليد بلاده، وحين استقبل الحاكم العام المؤلف وزوجته شاركتهم سكرتيرة الحاكم في حفلة الشاي لأن الحاكم أرمل. ويتطلع المسلمون الهنود في فيجي للسعودية ومصر باعتبارهما مراكز إشعاع، وركب المؤلف طائرة صغيرة مرعبة يجلس قائدها بين الركاب العشرة، وإبان وجود المؤلف في هذا البلد لم يكن التليفزيون قد دخله بعد.

ثم كانت نهاية المطاف في أقصى جنوب العالم بأستراليا التي لايوجد بعدها سوى نيوزلندا، وهي قارة كاملة غزاها الإنجليز عام (١٧٧٠م)، وأبادوا أكثر أهلها، والعدد القليل الباقي منهم منهمك بالعربدة مكبل بالتخلف والفقر، وهكذا يفعل البيض مع الشعوب التي يحتلون أراضيها وينهبون خيراتها.

ومع أنها بريطانية المنشأ إلا أنها تستورد كثيرًا من النظام الأمريكي وسماته المجتمعية، وتعتمد على أمريكا في الدفاع عنها. ولأنها قارة تقع في مناطق متباينة مناخيًا يوجد بها أكثر أنواع النباتات والحيوانات والطقس، وتشتهر أنهارها بالتماسيح المخيفة، وبحارها بالحيتان العظيمة، وذات ليلة دخل رئيس الوزراء إلى شاطئ غير آمن فاختفت آثاره ولم يرجع.

كذلك فيها صناعات ومنتجات وأصواف كثيرة، وتتنافس مع اليابان على اقتصاد آسيا وزعامتها وإن لم تكن آسيوية خالصة، ولا أدري لماذا ترك المؤلف مقارنتها مع الصين. ويوجد في وسطها قاعدة أمريكية حديثة للتجسس الإليكتروني، ومع أنها بلد سعيد إلا أن احتمال تفجر النزاع بين أعراقها أو بين العاملين وأصحاب العمل أمر وارد.

ومن اللافت أنها تقدم منحًا كبيرة لدول آسيا وأفريقيا، وتستضيف الآف الدارسين من شباب هذه الدول، وتتيح الهجرة إليها حسب احتياجها، فهي دولة كبيرة، وتخطيطها العمراني استهدف مئة عام قادمة، ولذلك تعاني بعض ميادينها وشوارعها من قلة عدد السالكين لدرجة الوحشة، ولا بد من اصطفاء سكان ملائمين يعمرونها.

ويمشي بعض الناس في كانبرا حفاة في الشوارع والأسواق بدعوى التحرر من المدنية والعودة للطبيعة، وهم بعيدون عن المظاهر المعقدة، والرسميات العسيرة، ولذا يركب كبار المسؤولين سيارات أسترالية الصنع بجوار السائق، ويجلسون معهم على مائدة واحدة، وللسائقين أدب جم كأنهم من أساطين الدبلوماسية، ويشتهر الأستراليون بالصراحة حتى أن رئيس الوزراء ظهر على الشاشات باكيًا بدموع تسيل، معترفًا بتعاطي ابنته المخدرات.

ولحكومتهم وشعبهم عناية كبيرة بتربية الأطفال، فالتعليم والعلاج مجاني، ولهم وجبات مدرسية صحية مجانية، مع برامج تليفزيونية خاصة، وفي كل مركز تجاري أو حي حديقة للأطفال تحوي ألعابهم وهي مجانية على نفقة الحكومة التي توزع الحليب مجانًا على كل المنازل.

وتعتني أستراليا بلغتها الإنجليزية؛ وتحاول تقريب الأجناس الأخرى الوافدة منها، وتفتتح فصولًا دراسية مجانية في الخياطة والطبخ واللغة وغيرها، ولكثرة حقول العنب تزدهر صناعة البيرة والنبيذ، ويقطنها جالية عربية من لبنان فمصر وغالبهم من الأقباط، وكان لهم دور في الضغط على السادات لإلغاء القيود المفروضة على زعيم الكنيسة القبطية، وقد فعل.

وحينما أرادت أستراليا مطالبة مصر بمستحقات مالية مقابل استيراد القمح، جاء وزير التموين المصري وقابل وزير الخارجية الأسترالي طالبًا منه معاملة تفضيلية فرفض بسبب مصاعب اقتصادية تمر بها أستراليا، وكان رفضه جافًا كاد أن يغلق الباب لولا أن تدخل المؤلف السفير بكلمة سر تفتح للعرب وغيرهم مغاليق الأبواب في أكثر بلدان العالم.

إذ قال السفير المصري للوزير الأسترالي بل هايدن بأن مصر تعاني من مقاطعة العرب لها بسبب السلام مع إسرائيل، ويالها من كلمة ساحرة قلبت موقف الوزير، الذي حمل الطلب لحكومته على عجل؛ ثم عاد بعد وقت يسير ليبرم صفقة استثنائية مع الوزير المصري د.ناجي شتلة عام (١٩٨٥م) تشمل زيادة المساعدات لمصر أكثر من السنوات الماضية مع أن أستراليا في تقشف، ومنحت مصر قرضًا ماليًا ضخمًا مع أنها لم تسدد قيمة قرض سابق، وجعلوا الشروط ميسرة، وثمن القمح أقل من السعر العالمي، وفوق ذلك تكفلت  أستراليا ببناء ثلاث صوامع لحفظ الغلال في مصر، ووهبت مصر كمية مجانية مع القمح.

وفي الختام أفصح السفير بأنه كتب هذه المذكرات التي جمعت بين أدب الرحلات والتأملات السياسية دون أن يتوافر له شرطاها وهما المشاركة في أحداث تاريخية، والاستناد لوثائق أو ذكريات مدونة أولًا بأول، وأنه فعل ذلك ليستريح خاطره من إلحاح هاجس الكتابة عليه؛ ولينقل تجربة سفر شملت ثلثي العالم خلال أربعين عامًا، على حساب الصحة مع تضحيات اجتماعية، تجعل صاحبها يشعر بالغربة دومًا، ولا يقوى على الاستقرار في مكان.

من غريب ماذكره المؤلف عن علماء غربيين أوردوا في مؤلفاتهم أن بناة الأهرام جاءوا من الفضاء الخارجي، وأن قدماء المصريين اكتشفوا أمريكا الجنوبية، وأن الحضارة المصرية القديمة جاءت من الفضاء الخارجي، والقول الأخير لنيوتن مكتشف الجاذبية، ولا نعلم أنه تعرض لتقريع من مثقفي حضارته، ولو قال مثله عالم مسلم لاستظرف عليه بعضنا مع الأسف.

أما طرائف الكتاب فكثيرة ماتعة منها أن خارجية مصر اكتشفت أنه لا يوجد لنيوزلندا سفارة في القاهرة فألغت سفارتها هناك مع أنها كانت العربية الوحيدة ودخلها مرتفع جداً. ومنها أن عمدة مدينة نيروبي وهي ابنة زعيم كيني من أبطال الاستقلال تدلف إلى الاحتفالات وخلفها خمسة من أولادها وهي غير ذات زوج!

ومن لفتات الكتاب اعتياد بعض وزارات الخارجية إراحة دبلوماسييها بعمل خفيف بعد عملين مجهدين، وحرص الدول على إيفاد سفير يتكلم لغة البلد، واجتهاد بعضهم لتعلمها ومعرفة تاريخ البلد وثقافته وحضارته، وبناء علاقة غير مريبة مع رجالاته ومؤسساته، وصنع الفرص لبلاده كي تكسب من البلد المضيف مواقف ومناصرين وصفقات.

ومن الضروري للدبلوماسي قوة الذاكرة والاحتفاظ بالصداقات، بينما يتطلب العمل في المؤتمرات الدولية سرعة الاتصالات والقدرة على إجراء المشاورات دون مواعيد رسمية، وتعد زيارة رئيس الدولة لمقر عمل سفير دولته سببًا للقفز بالسفير للأعلى أو تعصف به لدائرة النسيان، وليس في عالم السفارات أسرار، والكتب مع الوثائق المنشورة أو المسربة تثبت ذلك.

هذا لباب من كتاب ماتع، فيه دبلوماسية وسياسة وسفر وأفكار ومواقف ومعارف كثيرة، وما أحرانا بدفع مثل هذه الكتب للواجهة حتى تزاحم الغثاء، وتغني المحتوى العربي، وتفيد المسافرين عامة، والدبلوماسيين خاصة.

أحمد بن عبدالمحسن العسّاف – إسطنبول

ahmalassaf@

الجمعة ٢٣ من شهر ذي القعدة الحرام عام ١٤٤٠

٢٦ من شهر يوليو عام ٢٠١٩م

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)