سير وأعلام

محمد الخويطر وفضائل إنسان بلادي

محمد الخويطر وفضائل إنسان بلادي

كم يشيع الخير وصنع المعروف في بلادنا سواء من رجالها أو نسائها أو أسرها، وكم يحفظ الله البلاد والعباد بأفذاذ من خلقه استفرغوا الوسع في بذل المعروف، ومدافعة الشرور، فهبّوا مسابقين أو مبادرين من تلقاء أنفسهم لأفعال حميدة؛ وتلك من دلائل المجتمع العريق.

ولا غرو فمن استوعب معاني شعب الإيمان، وأيقن بعمق تداخلها مع شؤون المجتمع، أدركته الحيرة من تزاحم مجالات الإحسان أمامه؛ والموفق من جعل وفرتها سبيلًا لزيادة إيمانه ولو لم يكثِر من نوافل الصلاة والصيام والحج، وهذا من فقه العمل، وحكمة من لم ينكفئ على خاصة نفسه، فالروض فسيح مربع لا يضيق، ولا يذبل.

وهاهنا مثال مشرق على ما سلف يستوي قائمًا في سيرة الشيخ الراحل محمد بن عبدالله الخويطر(1347-1440)، وعسى أن يدفع تدوين جزء منها الآخرين لنشر مواقف أشياخهم من آباء وأمهات وأجداد وآل؛ إذ وقفت على قدر كبير من الأمثلة توانى حَفظَتها عن نشرها؛ أو حال بعض الورثة دون إذاعتها، مع أن بثها فيه أجر وذكر واقتداء وإصلاح.

فمن ركائز حياة الشيخ الخويطر رحمه الله البر بوالديه؛ حتى أنه انتقل من عمله في وزارة المالية إلى رئاسة القضاء سنوات قطعت مسيرته الطويلة في المالية ليكون لصيقًا بوالدته؛ وظلّ بجوار والده في شيخوخته يمرّضه، ويقوم بشؤونه دون أن يتنازل عنها لخدم، وأخذ لأجل ذلك إجازة طويلة؛ فليس أشرف من خدمة الأبوين، ولا أعز من التذلل بين يديهما.

كما أنّ له مع أولاده شأن من الرأفة والمحبة ومتين الصلة والتعلّق دون إهمال التربية برفق وقدوة، وشملت تربيته لأنجاله التعليم والرواية وفعل الصواب أمامهم؛ ولا بأس من عقاب أحيانًا بقرص أذن من أخطأ برفع صوته على طاعن بالسن! واستمرت طريقته حتى مع الأحفاد والأسباط.

لأجل ذلك تمنى قبل انتشار الهاتف المحمول لو وضع في سيارة كلّ ابن له هاتفًا ليكون على صلة دائمة بهم، وأنفق ماله أو أكثره ليصبحوا متقاربين حوله في المسكن، ودفع لهم مصاريف الزواج والسيارة، ولا يرضيه أن يسأل سائل أيًا من بنيه عمّن هو شقيق له أو أخ لأب فقط، فكلهم بنو صلبه وإن اختلفت أمهاتهم الكريمات سليلات الأسر العريقة.

أما تعامله مع أزواج بنيه فشبيه بسيرورته مع بناته، فمن احتاجته منهن لغياب زوجها تولى شأنها وأتم لها ما طلبت وزيادة كي لا تشعر بنقص أو تجدُ أثرًا لفقد، فكلّ واحدة منهن زوج فلذة كبد، ووالدة أغلى الأحفاد، وكريمة أنساب تستأهل العناية.

ولم يحصر الرجل نفسه في دائرته الأسرية الضيقة؛ ففي عمله أصبح سببًا لترقية عدد من زملائه لدرجة أنه يكمل نواقص أوراقهم بنفسه، ومن طبيعة التشارك في عمل تحاسد أفراده بيد أن أبا عبدالله صار نعم المعين لزملائه في الترقية، فليس في داخله دسيسة سوء أو غشٍّ لأحد، وما أندرها من خلة نبيلة، وكان يعين قليل ذات اليد منهم بمال يسد من خلته ويجبر نقصه.

من طريف مواقفه أن موظفي الرقابة لاحظوا على عهدة موظف معه نقصًا يسيرًا في الحسابات المالية، وهو أمر معتاد دون تهمة بسبب السهو والخطأ؛ فأراد خصوم هذا الموظف اهتبال الواقعة لتوريطه، فمنعهم الخويطر ودفع المال من جيبه وانتهت القصة بستر منع وقوع الخلاف بين زملائه، وحفظ وشائج المودة بينهم.

أيضا من حسناته نصيحة كلّ من قابله ولو لم يعرفه بطلب أرض من المنح الحكومية، وكتابة الطلب لمن لا يعرف كيفية الإجراء، وتقديمه للمؤسسة الحكومية المعنية، وسعيه الحثيث لتوظيف شباب وأرباب أسر دون أن يرتبط معهم بمصلحة شخصية، ولذلك تتكرر المواقف التي يسلّم عليه فيها البعض ويشكرون أفضاله عليهم وهو لا يتذكرها؛ لكثرتها وتقادمها، والله يكتب له أجرها.

كذلك جعل من بيته مقرًا لمن قدم من الأقارب والأصدقاء وغيرهم، وسكن بعضهم في داره مدة طويلة للدراسة أو العلاج وهو سعيد بالاستضافة لا يتبرم ولا يتضجر؛ بل يجتهد لإطالة فترة الإقامة “الفندقية”. وإذا زار منزله رفقاء بنيه من الفقراء هشّ لهم وبش، وحرص على بقائهم، ووهبهم من المال ما يسعد خواطرهم؛ ويرتقي بمعيشتهم، ولا غرو فالخويطر جابر للخواطر.

وينعم من يعيش في بيته من أهل وضيوف وساكنين إضافة إلى رواد مائدته بأطايب الطعام والشراب التي يتعمد شراءها؛ فمن عوائده إحضار أصناف من الفواكه غير معهودة، فإكرام أهله وضيوفه أولى عليه وإن غلا سعرها، فليس لكنز المال مكان في خارطة حياة الخويطر.

ومن كرمه توزيعه مع بداية موسم جني التمر السنوي أطيب محاصيلها على العشرات من الأقارب والجيران والأصدقاء وحتى منزل طبيبه ناله قسم منها، ولتكرارها وكثرتها ظنّ البعض أن لديه مزرعة خاصة، بينما هو ينصب في شرائها وانتقاء أجودها مهما كان ثمنها.

وكان يوصل أولاده مع أسنانهم من وإلى المدرسة، ويضيف مع خدمة التوصيل المجاني كمية من الخبز لبيوتهم من مخبز يمتلكه، فأيّ سمو اكتسبه بجدارة من الإيواء والإطعام والإعانة على الدراسة والسكن والوظيفة والعلاج ومواجهة صعوبات الحياة وأكدارها؟

ولم يهمل الخويطر الشأن العام ويكتفي بمآثره الحميدة المقصورة على أفراد أو بيوت، بل ذهب لوزير الزراعة واقترح عليه إضافة تاريخ صلاحية على منتجات الألبان حفاظًا على الصحة العامة للمجتمع، وحماية لأناسه من أخطار استهلاك أطعمة فاسدة، وخير الخلق أنفعهم.

كما يمتاز الرجل برحمة من حوله أيًا كانت صفتهم بالنسبة له، فحين لاحظ ضعف طفل من زوار ابنه الصغير أخذه للمستشفى وعالجه كأنه ولده، ودخل لمكتب مدير مدرسة أبنائه فوجده يعنف تلميذًا صغيرًا لم يؤد واجباته؛ فاستفهم من التلميذ بحنان وعطف؛ وعلم سوء وضعه بين أبوين متخالفين، ثمّ نصح المدير برعاية التلميذ وتغيير طريقة التعامل معه؛ وربما أن الفتى سلم من وحل المخدرات والجريمة والفشل، وغدا ذا شأن وتأثير بفضل وقفة الخويطر التربوية الحنونة.

وهو لطيف مع العمالة القادمة لبلادنا، يواسيهم بالكلمة الطيبة، ويعطيهم المال حتى بعد انقطاع علاقتهم العملية معه، ويحثّ أولاده على الرفق بهم، وحسن التصرف معهم، وكم نحن بحاجة للارتقاء في التعاطي مع القادمين لعمل أو زيارة أو غير ذلك من الدوافع الحسنة.

ويكلّف نفسه عناء السفر للعزاء في طفل صغير من أقاربه الأبعدين، ولما علم أن من يساوم على أرض له مريض بالسرطان أنقص له من قيمتها، وله دمعة حاضرة خاصة تجاه أولاده لدرجة أن أصدقاءهم غبطوهم على هذه الرقة الأبوية العذبة.

أيضًا ذكر أحد الذين حضروا للعزاء بعد وفاته، أنه طلب شفاعة أبي عبدالله له للقبول في الجامعة قبل عقود مضت؛ فلم يتأخر الرجل ودخل على مسؤول كبير ثلاثين مرة ليشفع للراوي بدخول الجامعة حتى نجح في تحقيق مطلوبه الذي كان عسيرًا.

أما خبره مع المال العام الواقع في متناول يده فيصف التعفف والنزاهة، إذ رفض غير مرة أخذ مبالغ مالية دون وجه حقٍّ مع كثرة ما سنحت له الفرصة، وأبى تقاسم أموال لا صاحب لها مع زميله، ورفض التغاضي عن الزميل لو أخذها.

بينما يمكن اختصار سياسته مع ماله الخاص بإهدار قيمة المال العالية المركوزة في النفوس، وإمتاع نفسه، وإسعاد بنيه، وإكرام ضيفه، وإنجاد الملهوف، وإعانة المحتاج، ومضى كثير من خبره في ذلك، ومن طريف قصصه الشخصية أنه صرف أول راتب تقاضاه لشراء قلم فخم بمئة وثلاثين ريالًا تقريبًا وهو كلّ راتبه؛ ولا ألومه! ويخرج الزكاة عن أراض واستثمارات طلبًا للسلامة حين يقف بين يدي الله، وخروجًا من الخلاف، وكم يفرح البعض بأيّ خلاف كي يتملص من الواجب الواضح ولو كان خلافًا واهيًا لا يُلتفت إليه.

إن جميع ماسُرد أعلاه قسم كاشف عن حياة رجل عاش بيننا، انتقل بين عنيزة ومكة والرياض، ومع أنه لم يُعرف بتضلع في العلم الشرعي أو انشغال بالعمل الدعوي، إلّا أن تربيته أصيلة، ونفسه كريمة، وهمته عالية، وطبيعة مجتمعه وبلاده تدفع باتجاه الفعال الشريفة المنيفة، ففضائل الشيخ الخويطر مرآة صادقة تعكس حقيقة مجتمعنا قبل قرن ونصفه وربعه وعشره واليوم وغدًا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهي منبع الإسلام وموئله، ومنبت العروبة ورافدها، فلا عجب أن يكون أهلها كذلك فضلًا وفضيلة وأفضالًا.

أحمد بن عبدالمحسن العساف – طرابزون

ahmalassaf@

الأحد 18 من شهر ذي القعدة الحرام عام 1440

21 من شهر يوليوعام 2019م 

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا. مقال يدخل السرور على النفس . على قراءة ناس من هذا النوع من الرجال . تشعرنا ان الدنيا بها الخيرين . جعلني اقرا المقال مرتين . رحم الله الشيخ محمد بن عبدالله الخويطر وجعل مثواه هو ووالديه الفردوس الاعلى . وكثر من امثاله . وجعل ماتكتب في ميزان حسناتك وحسنات والديك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)