إغة!
هناك في غرفة يحتضنها الظلام، ويملؤها السكون الموحش، جلست امرأة حُبلى وهواجس الخوف مع سكاكين الطلق يتناوبان على تعذيبها فلا تقوى على الصبر ولا تطيق الصمت؛ فصرخت طاردة الهدوء وأصواته المتوهمة، ولمع في ظلمة المكان بريق من عيونها الدامعة، وتوالت آهاتها دون مجيب حتى قطعها صراخ طفل اندفع إلى حيث لا يعلم، وكان خاتمة عناء الأم مع الحمل المنهك.
ثمّ مُنح الصبي اسمًا جميلًا سبقه إليه زعماء كثر؛ واختلف بذلك عن إخوته الذي حملوا أسماء غريبة لا تفسر، ولا أدري أهي حقًا أسماؤهم أم مجرد تنابز بالألقاب، لكن الله شاء ألّا يشتهر الوليد بذلك الاسم الفخم، فحين كبر وخرج للشارع بوجه مثل الساعة العاشرة وعشر دقائق، وملامح كبساط من نبات أخضر، شرع يردد بغنة متحشرجة كلمة “إغة” حتى صارت عَلمًا عليه!
ويبدو أنها أسهل كلمة التقطها صاحبنا في زمن المناغاة والمحاكاة وبقيت معه، وجاب الشوارع يكررها دون أن يحفل بما يقوله الآخرون، وبلا إدراك لانتهاء صلاحيتها بالنسبة لطفل انتظم لداته في صفوف الدراسة، ولم ينل نصيبه منها بسبب علّته الناجمة عن اختلال في أمشاجه أو ضمور في عقله، وكم كان في صنيعه مدرسة عملية لغيره، ومع أنه اُبتلي بذهنه إلّا أن فطرته سلمت من النقص.
المهم أنّ لإغة مزايا مع أنه لا يعقل ولا تلحقه ملامة، منها أنه لا يلتفت إلى أفعال الصغار، ولا يتوقف عندها، ولا يعاقبهم، بل ولا يتفاعل مع جرأتهم عليه البتة، فكم من مرة ومرة رماه الأطفال بالحصى، أو أخذوا لعبته الأثيرة فلم يأبه لهم، ولو فعل لسلم من العقوبة، فمن يجرؤ على معاقبة براءة لم تفارقه حتى بعد ظهور سيما البلوغ عليه؟
ومن أعجب شأن إغة ابتعاده الحذر عن طريق النساء، وامتناعه عن إطلاق بصره صوبهن، بل كان يأنف من الكلام القبيح الذي يلقيه عليه بعض العابثين مستثمرين رفع القلم عنه لعلّه أن يتفاعل معهم بما يضحكهم، ويرفض إجابة تماجنهم أو مشاركتهم في ساقط اللفظ؛ فسبحان من أبقى له شيئًا من نقاء الفطرة، والاعتزاز بالآدمية في زمن يمشي فيه على قدمين كثير من ذوي الطبائع البهيمية.
أما حين لم يدعُ أحدٌ إغة إلى المشاركة في اللعب، فقد اكتفى بموقف المتفرج المستمتع، ولم يفعل ما ينغص على اللاعبين مرحهم بذريعة أنهم لم يشركوه معهم، واعتاد على تقليب غطاء علبة حلوى بين يديه متظاهرًا أنه يقود السيارة بتحريك الغطاء يمنة ويسرة، ومع تظاهره فلم يكن متهورًا، ويلتزم بجوانب الطريق كي لا يؤذي ولا يُؤذى، وثابر على قيادة مركبته الوهمية معرضًا عما يراه ويسمعه من همز ولمز؛ وتلك استقلالية محمودة، واستثمار للمساحة المتاحة من اللهو المباح المقدور عليه.
ويقف الفتى إغة عند باب المسجد فلا يدخله خلافًا للصبية وغيرهم، ويبدو أنه وفق لتعظيم الأمكنة والأزمنة، وتحاشى الدخول للمساجد حذار تدنيسها ولو بالخطأ، وهربًا من التشويش على الركع السجود، بينما تفيض الفرحة منه عند إقبال رمضان والعيد، ويالها من بهجة حُرم منها كثير من أذكياء العقول، والله الخبير بمبلغ زكاة نفوسهم.
ولا يطيق إغة أيّ سمين، وهي من غرائبه إذ تكاد أن تنقطع حنجرته حينما يرى شخصًا بدينًا فيناديه بالوصف الشعبي المتداول “الدبة”، ومع هذا البغض أبى إغة أن يستجيب لمقترحات مستظرف بالتعامل المشين مع فتى سمين؛ فهو يفصل بين مشاعره وما يجب أن يفعله؛ فالحب لديه ليس كلفًا، والبغض أيضًا ليس تلفًا، وكم في الاعتدال والتوسط من فضائل، وإنما بلينا من السير الحثيث في الأطراف دونما بصيرة.
رحمة الله على إغة الذي مضى دون آثام ولا إيذاء، ولربما غبط غيره على السلامة الظاهرة، وتمنى لو كان يلعب ويلهو مثل أقرانه، وما عرف أن فوات الفانية ليس مغرمًا دومًا، وستأتي الباقية التي لا حساب عليه فيها؛ بينما يقف أولئك الأصحاء المستمتعين بما لم يفعله إغة ينتظرون يوم الفصل الطويل، ومن عقل أمر الدنيا، وشأن أهلها، ومصيرها، عاش معهم وبينهم مقتبسًا كثيرًا من حسنات إغة وحكمته التي أجاد فعلها ولم يستطع التعبير عنها!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 11 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1440
14 من شهر يوليو عام 2019م
4 Comments
عجزت افسر رمزية المقال. اعجبني جمال السرد و الوصف .
أهلا بكم.
فعل الخير فطرة، والشر تشويه للفطرة.
من أجمل القصص التي قرأتها عن الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة، وشتان بينها وبين القصة التي كتبها يوسف أدريس وما فيها من قسوة وتدني، قصة العساف هذه تليق بهذه الفئة كثيراً لأنهم بالفعل كما وصفتهم القصة طيبون للغاية ورحم الله أغة،وكم أنت رائع يا أستاذ أحمد في مواصلة نشر إبداعاتك في هذه المدونة الماتعة والنافعة.
شكرا لكم أخي الكريم عثمان، والله ينفع بها.