الحقيقة بوصلة الكتابة!
ضمن اهتمامي بشؤون القراءة والكتابة، قضيت ساعات متعة وفائدة مع كتاب عنوانه: الحقيقة والكتابة: الكتابة الوصفية في القصة والرواية، تأليف بثينة العيسى، صدرت الطبعة الثانية منه عن منشورات تكوين والدار العربية للعلوم ناشرون عام (1440=2019م)، ويقع في (135) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من أربعة فصول هي على الترتيب: الاستراتيجيات، الأدوات، الموضوعات، الحكاية.
أما المؤلفة فهي روائية وكاتبة وصاحبة فكرة مشروع تكوين للكتابة عن الكتابة، وهي أحد رموز تعليم الكتابة في عالم الضاد، ومشروعها يزداد مع الأيام حضورًا وتأثيرًا عبر سلسلة من اللقاءات المتنوعة، والاستضافات والإصدارات، وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي النشيطة، وكلها تطوف وتسعى حول الكتابة الإبداعية وشؤونها، وتحج بإجلال إلى عالم الإبداع، وقصة تكوين منشورة في الفصل الرابع من هذا الكتاب ضمن حكاية ملهمة نضرة.
يمتاز الكتاب بأمثلة حية داخل كل قسم منه، ثمّ تطبيقات وإحالات للاستزادة، وكان مختلفًا في إهدائه ومقدمته وخاتمته، فالإهداء ليس لشخص بل إلى الحقيقة أفضل شكل أدبي حسب ماركيز، وهي غاية المبدع كما قال إبراهيم الكوني، وعنها يبحث الكاتب برأي آن لا موت، لأن الهاجس الأكبر للكاتب من وجهة نظر بثينة أن يستطيع كتابة الأشياء كما رآها أو عاشها أو تخيلها؛ وبالتالي فهو لا يكذب وإن سرد الأكاذيب.
كما يعد كشف الحقيقة غاية للرواية عند كونديرا، فالحقيقة بوصلة للكتابة، وقوة ضاغطة ومهيمنة على جميع أدوات الكتابة، وتجعل المعنى المتولد عن عالم الرواية عصيًا على الدحض ولو بلغنا حقيقته بسوق الأكاذيب مكتوبة كالحقيقة، وهذه الحقيقة سياقية، وابنة المسار السردي، ووليدة التجربة الحية، ولذا يشترك القارئ مع الكاتب في اتفاق ضمني شرطه الأهم إحكام الكذب، لتشابه الكتابة والقراءة لعبة داخل حلبة النص؛ يستدرج الكاتب القارئ ليريه ما يرى أو يشوش رؤيته السابقة، ومع أنها تبدو بهذا التوصيف ذات لؤم إلا أنها لعبة راقية سامية المقصد.
وبما أن الحقيقة سابقة على الكتابة وهدف لها وراصدة لمعاني الكاتب فهي غاية الرواية، ووسيلة تحقيق هذه الغاية الوصف، وهو ما بنت عليه الأستاذة كتابها في محاولة شاقة لتتبع مسار خيط واحد متداخل مع جميع مكونات الرواية حين بنائها، ويصعب تحقق أي شيء فيها بدونه لدرجة النظر إليه على أنه الخط الفاصل بين الحكاية والرواية، وهو الوصف، وعلى هذا الحكم جرى العمل عن كتابة الرواية برؤية الكلي من خلال الجزئي، وفهم المحيط من قطرة ماء.
فالوصف العظيم كما يقول دونالد نيولوف يهزنا ويملأ رئتينا بحياة كاتبه، وتحيل الكتابة الوصفية من وجهة نظر بثينة العيسى القراءة من عملية ذهنية مجردة إلى تجربة متكاملة تتحول معها الكلمات من رموز إلى صور وأصوات وأحاسيس تستثير مخيلة القارئ، ويجزم ستيفن كنغ بأن الوصف يجعل القارئ مشاركًا حسيًا في الحكاية، وهو عند ريتشارد نوركويست استراتيجية بلاغية، تستخدم فيها قوة الكلمات كما تقول ريتا باتوتوندا لإثارة الخيال والاستحواذ على الانتباه واستدامة التأثير، ولا غرو أن تصل بنا المؤلفة إلى مشاركتها اليقين بأن الوصف يحول القارئ إلى متفرج يقرأ النص الأدبي عن طريق جوارحه وليس عن طريق عقله فقط.
كما يلامس الكتاب الفروق بين الكاتب الساذج والحساس والتشبيه يعود للروائي أورهان باموق، وهي تعني باختصار الكتابة التلقائية أو الواعية، والأكمل الجمع بينهما، فينطلق الكاتب أولًا كالساذج لا يلقي اعتبارًا لغير ما يثور في داخله، ثم يتوقف في لحظة مناسبة ليصبح كاتبًا حساسًا يحاكم عمله ويحسن تقدير مواضع كلماته، وإتقان الحساسية الكتابية هدف أصيل لهذا اللباب المركز.
بينما تنتصر المؤلفة لرأي ستيفن كينغ بحصر صناعة الرواية أو القصة في ثلاثة عناصر هي السرد والوصف والحوار، وأما الشخصيات والحبكة فهي آثار جانبية للقبض على عناصر الرواية السابقة الأكثر أهمية، ولا تتركنا دون حديث عن الإيقاع ومتى يسرع ومتى يتمهل ومتى يتوقف وماذا يصف، وهذا كله يعتمد على الشيء الذي يريد الكاتب قوله، ولذلك أوردت كاتبتنا ست نصائح مهمة للروائي جورج أورويل أساسها: ماذا يريد أن يقول الكاتب ففي العالم كم كبير يريدون الكتابة دون أن يكون لديهم ما يقولونه، وهذا سبب كثرة الهزال كتابة وتأليفًا.
والكتابة الوصفية أرض خصبة للإبداع وضخ الاستعارات، والوصف مهارة تحتاج لقراءة كثيرة وملاحظة فاحصة وكتابة لا تتوقف مع تغليب انحيازات الذائقة أحيانًا، والبعد عن الحشو والتكرار مالم يكن التكرار مكونًا جماليًا يستجلب للنص إيقاعًا موسيقيًا، ويبدأ الوصف الفعال بعملية تصور تتفنن بتحويل البداهة إلى دهشة، وتترفع عن أي وصف بطريقة مشوهة، مع الاكتفاء بوصف ما تتطلبه ضرورة العمل.
والقاعدة أنه ينبغي أن تحقق كل جملة من الرواية أحد أمرين: إما أن تكشف الشخصية أو أن تدفع الحدث، وتجاسرت المؤلفة- ويحق لها- بخبرتها العملية ومعرفتها النظرية وأضافت أمرًا ثالثًا وهو تأثيث العالم الروائي، فالتفاصيل تصنع الصورة الكبيرة، واجتماع الأشياء الصغيرة يسوق الأمور الكبيرة للحدوث، ولا مناص للكاتب من براعة في انتخاب التفاصيل التي تغني عمّا عداها، وغالبًا تكون التفاصيل الجوهرية هي الأسرع حضورًا في أذهاننا.
ومن أهم أدوات الوصف تفعيل الحواس أثناء الكتابة؛ والانتقال من وصف المطر إلى جعل القارئ يشعر بالماء يبلل جسده وثيابه، وهذه الكتابة تقتضي انغماسنا في العالم واكتشاف وجه جديد في الأشياء؛ فجوهر عمل الكاتب تفعيل الحواس وتوصيل التجربة البشرية بحرارة، لأنّ القدرة على إيقاظ كافة الحواس خلال الكتابة تكسو النص بلغة طازجة جديدة غير مستهلكة أو منتهكة، وتصيره مقروءًا بالحواس جميعها، ومما يساعد على ذلك الحذق في توظيف التفاصيل برشاقة، وإشراك جميع الحواس خاصة البصر، والمراوحة بين المحسوس والمجرد.
ثمّ تعود المؤلفة للتأكيد على مكانة الوصف فبواسطته نقبض على القارئ ونرتقي به إلى سلم الفكرة، ويمكن بلوغ ذلك بتوظيف المجاز بالتشبيه والاستعارات الرائعة التي تنمو تلقائيًا، وإقامة علاقة بين شيئين مختلفين، فالمجاز يعزز قوة الوصف، ويبعدنا عن الاستعارة الجاهزة التي تسمم لغة الكاتب وتعيق عمليك التفكير لديه؛ فقوالب الكلمات تسحب قوالب الأفكار معها؛ وحينها سيحكم الكاتب على نفسه بالتلاشي.
ومن أفكار الكتاب المهمة كتابة شخصية خالدة يمكن تقمصها وفهمها والتخاطر معها وإسباغ سمة المعقولية عليها، ووصف الفضاء والمكان فالقراءة سفر؛ ويصبح المكان أحد أبطال النص أحيانًا، واختياره عمل استراتيجي شديد الحساسية بالنسبة للكاتب، ويعطي للقصة مصداقية على مقاس مناسبتها للمكان، كما تحث المؤلفة الخبيرة على وصف المشاعر الداخلية البعيدة عن المشاهدة أو الملاحظة، ففرق بين الكتابة عن الشعور وكتابة الشعور؛ فلا تصف الحزن ولكن اكسر قلب قارئك!
ولأنّ وضع علامات التحذير مهمة في التعليم العملي، أوصت المؤلفة الكاتب بهجر استخدام المترادفات، ولفتت نظره إلى اجتناب ترهل الوصف حتى لا تختنق الفكرة تحت طبقات من البلاغة، وأكدت على امتلاك مهارة الاستبعاد والانتخاب والتغلب على تعلق الكتاب بلغتهم وكلماتهم، مع البعد عن الصور النمطية، وتحاشي إطلاق الأحكام حتى لا يسرق الكاتب متعة القارئ الذي يتوق لأن يرى ويكتشف بنفسه، كما ذكرت خمسة شروط لنجاح أيّ ورشة عمل.
كم هي ساحرة هذه الآلة التي يسمونها النص الأدبي، وكم هي ساحرة تلك الكلمة البليغة التي تؤدي أكثر من دلالة، وكم هو ساحر-أو ساحرة- ذلكم الكاتب الذي يتلاعب بالحروف والكلمات لإيصال معنى، أو نقل فكرة، أو هدم عادة، أو هرب من مساءلة، وهو في إبداعه يثب بإتقان بين المجاز والحقيقة؛ بيد أنه لا يقول غير الحقيقة عند الكتابة، حتى لا يسقط في قعر سحيق، وإنّ من البيان لسحرًا، ومرحبًا بالحقيقة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
السبت 10 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1440
13 من شهر يوليو عام 2019م