عبدالله بن حمد الحقيل: الرّحالة العريق
ليس النّفط – مع أهميته- هو أغلى شيء في بلادنا، فكم من بلاد نجحت دون أن تكون غزيرة الموارد، وإنّما يكون فخر البلاد برجال ذوي عقول، وقدرة، وإخلاص، وبيئة تعين على الحريّة والإبداع، ولذلك نفاخر بوجود قامات سامقة ذات أثر ومنافع، ويُحتفى بهم وهم أحياء إكرامًا لهم، ويُذكرون بعد رحيلهم كي تقتدي بهم الأجيال، وتزداد ثقتهم بمجتمعهم الذي يُساء له من بعض بنيه أحيانًا.
ومن الشّخصيات التي تبهرنا بكثرة تأليفها، وامتداد مجالات اهتمامها، وحضورها المشرق، وعلاقاتها المتشعبة، مع الثّناء العاطر ممن عرفوه وعملوا معه، يبرز لنا الأديب الرّحالة عبدالله بن حمد الحقيل، سليل الأسرة المعروفة بالعلم والقضاء والتّاريخ والأنساب، المولود في المجمعة عام (1357)، والمتوفى في الرّياض أوائل سنة (1440)، بعد أن صنّف أزيد من ثلاثين كتابًا، أكثر من ثلثها في أدب الرّحلات، وما أمتع هذا الفن.
وللكاتب الأريب مؤلّفات في التّربية، والتّعليم، واللّغة العربيّة، والتّاريخ، فضلًا عن دواوين شعر، ومؤلفات وطنيّة واجتماعيّة، ويضاف إليها كلمات ومحاضرات وأوراق عمل في مؤتمرات داخلية وخارجية، فالرّجل رسول ثقافته وحارسها الأمين، مع اعتزاز ظاهر، واعتداد لم ينكسر حتى وإن بهتت صورة أمّتنا الحضاريّة في هذه الأزمنة المتأخرة.
أمّا كتبه حول الرّحلات فشأن آخر، إذ جمع فيها شتات الأرض كما يقول د. عبدالله بن إبراهيم العسكر، ووهبه الله عبقرية سياحيّة حسب وصف الكاتبة حنان آل سيف، وهو رحالة واع يفخر بانتمائه لتراثه، ولا ينخدع بالمظاهر المادية للحضارة طبقًا لرأي أ.د.عبدالله حامد. ومن جميل اعتياده قبل السّفر أن يتعرّف إلى تاريخ البلد وجغرافيته وأحواله، ثمّ يزور معالمه ومساجده ومكتباته ومتاحفه، ويقابل أهله من المثقفين والأقليات المسلمة، ليصف رحلاته بدقة واختصار وتشويق أهلّته لينادي قارئه قائلًا بثقة: تعال سافر معي!
كما عمل الحقيل في مؤسسات حكومية ذات علاقة بالتّعليم والتّاريخ سواء في وزارة المعارف أو دارة الملك عبدالعزيز التي ظلّ يكتب افتتاحية مجلّتها تسعة عشر عامًا متواصلة، وما أصعب الكتابة بعامّة؛ وكتابة الافتتاحيات على وجه الخصوص، فكيف بالاستمرار عليها لمدة طويلة، وإنّما هي الجديّة، ورسالية العمل، وتطابق الوظيفة مع الهواية والموهبة.
ومثّل الحقيل بلاده خير تمثيل سواء حين أنتدب للتّعليم في الجزائر أو لبنان، أو فيما شارك فيه من مؤتمرات وملتقيات وندوات، وإنّ من يُحسن التّمثيل لجدير بالتّوقير؛ فهو رائد لنا وصورة عن مجتمعنا، وما أحوج أيّ بلد لمن يجيد الحديث باسمه، ويتقن التّصرف نيابة عنه، فلا يشينه ولا يعيبه ولا يتبرقش!
بينما يصفه عارفوه بأنّ أسلوبه في القرطاس هو ذاته أسلوبه مع النّاس والعبارة بنصها للأديب والمؤرخ الكبير محمّد حسن زيدان، ويجتمع فيه أدب الدّرس مع أدب النّفس، ولا يغاضب رفقاءه في السّفر أو يعاندهم بشهادة الأديب الكاتب حمد العبدالله القاضي، وامتاز بالتّوازن والابتعاد عن المثالب، وظهر في أبحاثه الجلّد والآفاق الواسعة كما يرى الشّاعر أحمد بن عبدالله الدّامغ.
ولمؤرخنا البحاثة مقترح بصير ملخصه افتتاح قسم أكاديمي للدّراسات الوثائقية، وعنده رأي كاتب خبير وشاعر عارف وفحواه أن ليس كلّ ما يرضى عنه صاحبه-يعني من الأعمال المكتوبة- يستحق الرّضا من قارئه، ولأجل ذلك وضع كتابًا في الإنشاء قدّمه له الشّيخ الوزير حسن آل الشّيخ، علمًا أنّ عددًا من كتبه صُدّرت بتقديم علماء أو وزراء.
ومن طريف خبره في الجزائر حنين أهله للمواضع التّاريخيّة في جزيرة العرب الواردة في السّيرة والمغازي والمعلّقات؛ مع أنّه أوفد إليهم بعد خلاصهم من الاحتلال الفرنسي البغيض الذي أزهق أرواح ملايين الشّهداء وليس مليونًا واحدًا كما يُشاع، وكم لبلادنا من خصائص تجعل انجذاب العرب والمسلمين لها يسيرًا، ونفورهم منها ثقيلًا.
وباختصار أقول: حاز الحقيل هذه المحامد من فضل الله عليه، ثمّ لانتسابه إلى أسرة عريقة، وتربيته في بيت نبيل، واجتهاده في طلب العلم وتعليمه؛ حتى أنّه خاض في الرّمال، وقطع الصّحاري، وتسلّق الجبال، وامتطى الدّواب، ومشى مسافات طويلة في الحر، وعانى من اختلاف البشر وطبائعهم ومواقفهم تجاه المدارس، لكنّه في سبيل نشر العلم صبر وصابر، فرجل مثل أبي حمد يبتهج حين تقوم مدرسة، وتغمره السّعادة إذا شاهد الطّلاب يتسابقون إليها.
كان هذا تطوافًا عبر ثمانية عقود مع كتاب عنوانه : عبدالله بن حمد الحقيل: سيرة ثقافية وتاريخية، تأليف: د.عبدالله الزازان، صدرت طبعته الأولى عن دار الزازان عام (1440=2019م)، ويتكون من (266) صفحة تحوي سبعة عشر قسمًا؛ أوّلها مقدّمة المؤلف، فاستهلال بقلم المترجَم، وبعدها سياحة مع تجارب الحقيل ورحلاته ومشاركاته وتآليفه وأشعاره وحواراته وتكريمه، ثمّ خاتمة فتعريف بالمؤلّف الخبير بكتب السّير والاعترافات، وأخيرا قائمة بالمصادر.
ومن المناسب خدمة هذا الجهد الطّيب في الطّبعات القادمة، بإضافة ما كتب عن الأديب الرّاحل، وتخليص المضمون من التّكرار، وإدراج صور مهمّة، وزيادة قسم عن مكتبته وأوراقه، وإحكام صياغته إذ لم يسلم من تكرار معلومات وكلمات يمكن الاستغناء عنها.
وبعد، فهذا شيء من أخبار رجل عاش مع الكلمة مقروءة ومكتوبة، وصاغها شعرًا ونثرًا، ونقلها داخل بلاده وخارجها، وسعى أن يخدم دينه وبلاده وما يعتقده من أخلاق كريمة، وشيم سامية، وبثّ في كتبه من المعاني والنّصائح والتّجارب ما تمسّ الحاجة إليه إن الآن أو في قابل الأيّام، ولا يضيع الإحسان والعمل الصّالح البتة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 30 من شهرِ شعبان عام 1440
05 من شهر مايو عام 2019م