مع الحسّون في رحلاته
قبل تسع سنوات كتبت مقالة عن إحدى أمتع السّير الذّاتية المحليّة وأطولها، عنوانها: خواطر وذكريات، كتبها الأديب إبراهيم بن محمّد الحسّون، وأشرت في مقدّمة تلك المقالة إلى قرب صدور الجزء الرّابع من هذه السّيرة بناء على ما أخبرني به حفيد المؤلّف محمّد، ومع أنّي عرضت مئات الكتب، فلا أعتقد أنّ كتابًا وردني السّؤال عنه أكثر من سيرة الحسّون.
وأخيرًا، صدرت الطّبعة الجديدة بأربعة مجلدات عام (1440)، استفتحها يوسف بن إبراهيم الحسّون بمقدّمة جميلة كتبها عام (1429)، ومن المناسب تجديد هذه المقدّمة بما يتوافق مع المتغيّرات، ففي أحد عشر عامًا حدث ما يقتضي تعديل محتوى المقدّمة، ولعلّ ذلك أن يكون في طبعة قادمة، فالكتاب سيّار، والطّلب عليه كبير، ومكانه في المكتبة السّعوديّة محفوظ.
صدرت الطّبعة الأولى من الجزء الرّابع والأخير مع باقي الأجزاء عن دار المؤلّف عام (1440=2019م) ويقع في (٣٢٧) صفحة، على ورق نباتي، ويتكوّن من مقدّمة، ثمّ أكثر من ستمئة عنوان ما بين يوميّات أو استرسال تاريخي وأدبي وتأمّلات، وبعدها خطبتان للحسّون، ثمّ كلمة الوداع، فملحق للذّكرى فيه صور ووثائق، وأخيرًا الفهرس.
يحتوي هذا الجزء الماتع على رحلات كاتبنا التي بدأها بعد التّقاعد وضعف البصر الحائل دون القراءة، وكانت إلى بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، ثمّ رحلته إلى المغرب والأردن وتركيا، ووقعت الأولى في مستهلّ عام (1403) وآخره، وبعضها بصحبة صديق، بينما كانت العائلة معه في بعضها الآخر عام (1405)، وتكرّرت زيارة بعض المواضع، ويظهر من السّياق قوّة ذاكرة أبي يوسف، وقدرته على التّصوير والوصف البديع، وروحه الّلطيفة.
كما نلمح من هذا القسم عظمة التّاريخ، وأهميّة ذاكرة المكان، ولذّة السّؤال، ومتعة الدّهشة، وفوائد التّجوال، وثمار التّقييد والتّوثيق، وفيه جانب باهر من السّياحة الماتعة النّافعة بلا مآثم أو مخازي، وكم فيه من أخبار حلق الذّكر والعلم، وجلسات الحوار والنّقاش، وأبّهة المساجد والأبنية، وفصاحة الخطباء والمتحدّثين، وتلاوة عبدالباسط المسموع محاكاتها إن في المغرب الأنيس أو في تركيا الجميلة.
ففي لندن شاهد الهايد بارك الذي يصف الخطباء فيه حكومة بريطانيا بأبشع النّعوت على مسمع من رجال الأمن دون أن يحرّكوا ساكنًا، فماذا لو كان في بلاد العرب منابر متاحة للصّادقين دون أن يؤاخذوا على رأيهم ولو كان مؤلمًا؟ إنّ هذه الحريّة المنضبطة كفيلة بألّا يكون في بلاد المسلمين واقعة مثل سجن قصر الباستيل الذي زاره الحسّون وطاف بأرجائه، وروى أخباره.
وزار في فرنسا قصر برسايل الذي أهانت فيه دول الحلفاء المنتصرة ألمانيا المهزومة، وفرضت عليها شروطًا دوليّة مجحفة ومذلّة، ولأثرها البغيض استيقظ الشّعور القومي الألماني، فكانت النّتيجة مروّعة ببزوغ زعيم سفّاك جريء بتهوّر مثل هتلر، الذي اكتسح قارة أوروبا وكاد أن يبتلع بريطانيا لولا أن أخطأ فصادم روسيا.
أمّا هدف الرّحلة الأعظم فكانت إسبانيا، إذ سار فيها بلدة بلدة، يسرد ويصف وكأنّ القارئ جالس بين موسى بن نصير وطارق زياد، أو حاضر في مجلس صقر قريش وعبدالرّحمن النّاصر، أو فرد ضمن جيش يوسف بن تاشفين، أو سمّار المعتمد بن عبّاد، وإنّ التّاريخ لأحد أكبر المحفّزات على التّغيير وإصلاح الحاضر والمستقبل.
ولفت نظره نخيل أشبيليا التي تذكره بعنيزة، والتقى بمدير فندق سكن فيه، اسمه جورج بن حنّا وهو مسيحي خريج الفندقة من السّوربون، ومن عجب حميّة ابن حنا للعرب والمسلمين، بيد أنّه عجب زال حينما أحضر الرّجل للحسّون وثيقة تحفظ نسبه إلى جدّه الرّابع عشر وهو عربي مسلم؛ ولذلك فهو مغرم بتاريخنا، وليته أنقذ نفسه ونسله.
كما لاحظ أبو يوسف عروبة الملامح في رجال الإسبان ونسائهم، وأذكر أنّ لنزار قباني قصيدة يشبّه دليلته الإسبانيّة ببنات دمشق، ثمّ عرّج الحسّون على ماربيا التي يبرز فيها العنصر العربي ضمن السّواح الأثرياء ذوي القصور واليخوت والبذخ، وتمنى لو كانت يخوتهم في موانئ العرب، وحضرني حين وصفه لماربيا شطر بيت يقول: ماربية الفتح أم ماربية الطّرب؟
ثمّ ركب البحر إلى طنجة لتكون محطّته الأولى في المغرب البهيج، وكان لمظهر رفيقه المشيخي أثر في التّرحاب من رجال الجوازات المغاربة وازداد حين علموا أنّهما من السّعوديّة حامية الحرمين، وفي طنجة حدثت له قصّة طريفة مع موظف الفندق وزوجته.
وذهل من فصاحة خطباء المغرب حتى أضحى بينهم خطيبًا يتدافع النّاس للسّلام عليه ودعوته للزّيارة، وشاهد ميلان صفوف المصلّين في جامع القرويين بسبب ميلان اتّجاه القبلة المكتشف بعد إتمام البناء، ومن الصّعب هدمه للتّصحيح بسبب التّكاليف، ويا ليت أنّ أحدًا يتكفل بذلك فهو أولى وأجدى.
ومن العادات المغربيّة العجيبة التي لفتت نظره تبرع المواطنين لأيّ فرد من الأسرة الحاكمة إذا أراد أن يتزوّج! ومن ملح الرّحلة أمنية صاحبه فيها وهي قاسم مشترك عند جلّ الرّجال، ومن طرائفها مجاورة إنسان ضخم مستدير في الطّائرة المتجهة إلى القاهرة، ولم يكفّ عن إطلاق أصوات من جسده تشبه المفرقعات!
بينما يبدي أديبنا حزنه على مستوى مطار إسطنبول، ومساحته الضّيقة، وقدمه بما لا يليق بمدينة خالدة، كما تحسّر على تعطيل الشّعائر الإسلاميّة في جامع أيا صوفيا، وتألّم لابتعاد الحكومة التّركيّة عن الإرث الحضاري لأمّتنا، وانبطاحها لأوروبا، وتضييق عسكرها وساستها الخناق على العمل الإسلامي بأنواعه، ورحمة الله على أبي يوسف، وعلى غيرته وحميته يوم أن وصل إلى إسطنبول في السّابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1403).
أسهب الحسون في تاريخ الدّولة العثمانيّة، ومعاركها ومواقفها ورجالاتها، ثمّ توقّف كالمتنهد حسرة على وعي بعض العرب والمسلمين آنذاك، وعلى مواقفهم، وأعلن لقارئه أنّه فصّل في تاريخ العثمانيين ليقطع ألسنة بعض الحاقدين الذين حاولوا النّيل من تلك الدّولة، وإلصاق التّهم الباطلة برجالها، ومع ذلك ففي هؤلاء صمّ بكم عمي، ومنهم من يقبض ثمن الصّمم أو قيمة الكذب، فبئست التّجارة.
ومن أعجب المشاهد لقاءه مع بائع شاب يتقن العربيّة بطلاقة وبيان، لأنّ والده الأزهري علّمه إيّاها منذ طفولته، وعندما استنكر الحسّون صور الفجور والعري قال له الشّاب المؤمن: هي مفروضة من الحكومة التّغريبيّة العلمانيّة، ومن يرفضها تعاقبه بقسوة، ومع استقواء الرّذيلة والفسوق بحماية السّلطة إلّا أنّها منبوذة محتقرة من المجتمع؛ وليس لها جمهور كبير، والكثافة توجد في المساجد ومعاهد حفظ القرآن، وسوف تنقشع هذه الغمّة قريبًا، وما أجمل التّفاؤل مع العمل.
وبشعور إسلامي فيّاض، يحضّ الحسّون السياح العرب على زيارة تركيا، وصرف الأموال فيها بدلًا من أوروبا أو غيرها من البلاد الكافرة، ويشهد لمساجدها بأجواء الإيمان ما بين قرآن وعلم وذكر، ومزاحمة الشّبان من الجنسين كما رأى وأخبرته زوجه الفاضلة أم يوسف، ومن دقيق ملاحظاته أنّ روّاد المساجد يتأخرون بعد الجمعة، فلا تكاد الصّفوف تنفرج قبل مضي ربع ساعة على انقضاء الصّلاة.
ولأنّ الحسون مغرم بالتّاريخ، وسبق أن اختصر الحرب العالميّة الثّانية في أوّل الكتاب، عاد لاختصار الحرب الأولى في آخره، مستنكرًا انصياع الشّريف للإنجليز، وما أعقب ذلك من محن لازالت آثارها تجثم على أمّتنا وتشرذمها، ولم ينتفع الشّريف بمواقفه أو مقالاته التي قبّل فيها جبين بريطانيا على أوراق صحيفة القبلة، وإنّما القبلة في مكة وليست في لندن أو غيرها، ويتمنّى المؤلّف لو يعي حكّام المسلمين التّاريخ وسنن الله؛ كي يعتصموا بحبل الله، ثمّ يحسنوا لشعوبهم وديارهم وثقافتهم، ويجتنبوا مواطن الزّلل.
ويختم الكتاب بالكلمات الأخيرة التي أملاها الأديب المؤمن بين يدي مولاه في محراب الرّجاء والأمل ليلة الخميس السّادس عشر من شعبان عام (1422)، بعد أن ارتحل والداه وإخوانه وأخواته، وكان هو آخر من بقي من أفراد ذلكم البيت العنيزاوي المبارك، وهي نبض فؤاد مقبل على الله يرجو ما عنده، ويسأله القبول والعفو.
رحم الله أبا يوسف، فقد كان صاحب قرآن ومصحف، وكم من مرّة صادفني في مسجد الجمعة قبل الخطبة فيعطيني المصحف لأسمع له حفظه من سور مريم وياسين وغيرهما مع أنّي حينذاك طفل صغير، وكان إذا جلس مع والدي -رحمهما الله- يلقي علينا أسئلة تاريخيّة، وتكاد البسمة أن تملأ وجهه الهادئ إذا كان جوابنا صحيحًا، والله يجعل سيرته من العلم المنتفع به، فهي غزيرة الفائدة، كبيرة الأثر، وافرة الإمتاع، مشبعة بالاعتزاز.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 29 من شهرِ رجب الحرام عام 1440
05 من شهر إبريل عام 2019م
One Comment