عربستان وحكم الشيخ خزعل
هذا كتاب يروي حكاية شبيهة بمأساة فلسطين؛ أبطالها الفرس، وكاتب السيناريو ومخرجه الإنجليز، وعنوان الكتاب: عربستان خلال حكم الشيخ خزعل الكعبي (1897-1925م)، تأليف المؤرخ العراقي د.مصطفى عبدالقادرالنجار، وقدم له د.فيصل الرفوع وزير الثقافة الأردني السابق، وصدرت طبعته الأولى في (496) صفحة عن الدار العربية للموسوعات عام (1429=2009م)، وفي الكتاب أخطاء طباعية وتبديل بين اسمي مزعل وخزعل، وإدراكها مسؤولية القارئ؛ وإصلاحها واجب على المؤلف والناشر في الطبعات القادمة. ويتكون الكتاب من إهداء، وتقديم فمقدمة، ثم تمهيد فثمانية فصول، وبعدها أربعون ملحقاً، ثم قائمة بالمصادر والمراجع وبعض الخرائط، وعلى الغلاف خريطة عربستان وصورة خزعل.
أهدى المؤلف كتابه لحفيده الذي يماثل اسمه تماماً، والأجداد يستعذبون الأحفاد؛ خاصة أولئك الذين يحملون أسماءهم، ثم كتب د.الرفوع تقديماً مختصراً أثنى فيه على جهد صديقه؛ وإفادته من وثائق لم ينشر بعضها من قبل. وفي مقدمته أشار المؤلف إلى أنه لا يعرف كتاباً خاصاً عن عربستان كقطاع متميز؛ فضلاً عن وجود هفوات في بعض الكتب التي أشارت إليها ضمناً، ورغبة من المؤلف في تجاوز التضليل الفارسي، وكسر احتكار الأجانب للكتابة عن تاريخنا؛ فقد صرف همته للبحث عن عربستان وأقوى شيوخها، مستفيداً من انتسابه للبصرة المجاورة لعربستان في سهولة التواصل مع المنطقة والشخصيات المؤثرة فيها؛ وللمؤلف أبحاث أخرى عن عربستان حسب سيرته في الإنترنت.
ونظراً لقلة المادة المتوافرة عن البحث؛ فقد سعى المؤلف لمقابلة شخصيات مهمة من آل خزعل وغيرهم؛ وذكرهم في مراجعه إلا من رغب في ترك الإشارة إليه، ونقب في الصحف والدوريات والمخطوطات، وأفاد منها خاصة مخطوطات آل باش أعيان وأحفاد خزعل، كما نبش الوثائق الأجنبية الإنجليزية والروسية والعثمانية والإيرانية؛ وكم في الوثائق من تاريخ وأسرار لمن يحسن القراءة. وكانت مراجعه باللغتين العربية والإنجليزية؛ حتى أنه أفاد من مقالات لشخصيات مؤثرة كاللورد كروزون -أصدرت عنه هيئة أبو ظبي مؤخراً كتاباً في (03) أجزاء-، ومن مراجعه كتاب تاريخ الكويت السياسي الذي يقع في خمسة أجزاء ومؤلفه حسين الشيخ خزعل- وهو سبط الشيخ خزعل، ويعد هذا الكتاب من أشهر الكتب الممنوعة في الكويت-، كما عاد لمذكرات رضا خان الحاكم الفارسي الفاتك الذي أنهى استقلال عربستان.
ابتدأ الباحث بتمهيد جميل عن المميزات الطبيعية لعربستان؛ بيَّن فيه أنها تحجز بين آسيا العربية وغير العربية، ومنحها موقعها المتميز بحراً وبراً، وقربها من حقول النفط مكانة اقتصادية عالية، فضلاً عن وفرة مياهها ومحاصيلها الزراعية، وتبلغ مساحتها حالياً -بعد تقليص الاحتلال الإيراني مساحة الإقليم تحت ستار التنظيمات الإدارية-(159,600) كلم2، وأما عدد سكانها قبل الاحتلال -أي قبل (89)عاماً- فيبلغ مليوناً ونصف المليون عربي، وأول من أطلق عليها اسم “عربستان” هم الصفويون؛ وهذا يمثل اعترافاً تاريخياً بعروبتها؛ وإن سعت إيران لاحقاً لطمس عروبة المنطقة؛ التي كان الفرس يسمونها قديماً خوزستان أي بلاد القلاع والحصون.
وتجري في عربستان أنهار كثيرة دون انقطاع؛ ومن أشهرها نهر كارون الذي يمتد بطول زهاء (1300) كيلومتر؛ أي أنه أطول من شط العرب؛ وعمقه مثل عمق نهري دجلة والفرات، وماؤه عذب وخفيف، وقد سماه العرب نهر دجيل، وتقع خمسين مدينة على ضفاف هذه الأنهار. وطقس عربستان شبيه بطقس البصرة، حيث تتداخل الفصول الأربعة؛ ويتميز الصيف والشتاء، بينما الربيع والخريف لا يكاد أن يشعر بهما أحد. ومن أهم مدنها عاصمتها الأحواز، والمحمرة نسبة لترابها الأحمر، وعبادان التي يوجد فيها أكبر مصفاة للنفط في الشرق الإسلامي؛ وفيها مُنح أول امتياز للتنقيب عن النفط في الشرق الإسلامي، والحويزة وتستر التي تسمى غوطة عربستان لخصوبتها ووفرة أمواهها، ومسجد سليمان الغنية بالنفط، ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذه المدن وغيرها قد سمتها حكومة فارس بأسماء أعجمية؛ لقطع صلتها بالعرب وتاريخهم.
ثم انتقل المؤلف إلى الفصل الأول عن التطورات السياسية العامة للإمارة؛ حيث تحدث عن انتقال قبيلة بني كعب وغيرها من القبائل العربية-الشيعية غالباً- إلى هذه المنطقة، منطلقين من العراق في منتصف القرن الميلادي السابع عشر، واتخذت من الخلاف الفارسي-العثماني على سيادة المنطقة-وهو نزاع سياسي ومذهبي- ذريعة لبسط سيطرتها وفرض الأمن، وقد تحقق لهم ذلك بعد تكوين الأسطول البحري الكعبي الذي تقاسم مع أسطول القواسم النفوذ على الخليج. ويعد سلمان بن سلطان (1737-1767م) أعظم أمراء عربستان من بني كعب، وكان بدهائه يتملص من إجابة طلبات الشاه والوالي العثماني والإنكليز الذين حاولوا حربه منفردين فلم يفلحوا؛ ودحرهم جميعاً حتى بلغت شهرته أوروبا. ثم دب خلاف بين أمراء كعب مما حدا بقسم منهم يسمى البوكاسب إلى الإقامة على مصب نهر كارون وتأسيس بلدة المحمرة في عام (1812م)؛ التي كانت نواة لحكم أحفاد مرداو بن علي بن كاسب.
وكان النزاع الإيراني العثماني ممتداً طوال أربعة قرون، ولم يهدأ إلا بعد الانقلاب الكمالي وزوال الصفة الدينية عن تركيا، وكان لإيران أطماع تتجاوز عربستان إلى العراق حيث العتبات المقدسة والخيرات “الأقدس”، وقد تكونت لجنة رباعية لمعالجة هذا الخلاف وضمت إلى جانب طرفي النزاع روسيا وبريطانيا؛ وكأننا أمة من القُّصر لا نقدر على إنهاء أمورنا بغير رباعية! والطريف المحزن أن رباعية السابق كانت تضمنا كطرف؛ بينما رباعية اليوم مغلقة دوننا، وكلها في النهاية تصب لصالح غيرنا؛ وهذا جزاء من يسلم قياده لعدوه وإن تظاهر بالصداقة؛ علماً أن حق تقرير المصير لم يمنح لشعب عربستان؛ مع أنه كان “موضة” سياسية في القرن العشرين!
وخصص الكاتب الفصل الثاني عن أمراء المحمّرة التي شيدها يوسف بن الحاج مرداو عام (1812م)، حيث يعد الحاج جابر بن مرداو الذي خلف أخاه يوسف في الرئاسة المؤسس الحقيقي للإمارة، وظل في الحكم أكثر من نصف قرن (1829-1881م)، وكان سياسياً جريئاً، وذا حكمة ودهاء استخدمهما في استمالة الشاه والوالي العثماني منفردين، وكان له مجلس عامر بالعلم والأدب، وكلما عاندته قبيلة تزوج منها وأزال الشحناء بالمصاهرة، ومن هذه الزيجات السياسية أنجب “خزعل” عام (1862م) من نورة ابنة “طلال” شيخ الباوية من ربيعة، ومنذ عام (1857م) حصل على الاعتراف باستقلال المحمرة ذاتياً؛ وبإمارة أسرته عليها.
وخلفه ابنه مزعل (1881-1897م) الذي انتقل بالإمارة من الاستقلال الذاتي إلى الاستقلال شبه التام، وقد عانى من انشقاق القبائل عليه؛ وهي نفس معاناة آبائه، وكانت علاقاته الخارجية مع شيوخ المنتفك آل السعدون ومع آل الصباح أمراء الكويت علاقات وثيقة كأبيه تماماً، وفي عهده فتحت الملاحة في نهر كارون للتجارة الدولية-ولها فوائد ومضار-، وكانت السيطرة فيها لبريطانيا التي افتتحت قنصلية في المحمرة عام (1890م)، وقد اغتال خزعل أخاه مزعلاً عام (1897م) عند نزوله من قارب صغير إلى قصره في الفيلة؛ وقُتل معه سبعة عشر رجلاً من حاشيته.
ولذا فعنوان الفصل الثالث الشيخ خزعل أميراً لعربستان، وعده الريحاني أكبر ملوك العرب بعد الشريف حسين، وترافقت مع أيامه (1897-1925م) أحداث مؤثرة؛ فقد تفجر النفط، واندلعت الحرب العالمية، وانهار الحكم القاجاري في إيران، وقام الحكم البهلوي الذي أطاح بحكم خزعل. وكان مزعل حذراً في التعامل مع بريطانيا؛ خلافاً لخزعل الذي ذهب في طاعتهم إلى أبعد حد، مما استوجب ثناء التقارير على ولائه المطلق، ومنحوه ألقاباً “سامية”؛ ولبعضها رموز ذكر المؤلف أنه لم يتوصل إلى مدلولها؛ وهي مماثلة لرموز مُنحت لمبارك الصباح حاكم الكويت. وكانت العلاقة بين الرجلين وثيقة جداً، ويتقاطعان في الاهتمامات والمواهب، ويتشاركان في العبِّ من المتع، والنهل من صنوفها؛ وقد بنى كل واحد منهما للآخر قصراً في عاصمته، وأعجب ما في الموضوع أن مبارك وخزعل اعتليا الحكم تباعاً؛ بعد أن قتل كل واحد منهما أخاه، وشهدت علاقات بلادهما مع الإنجليز في عهدهما تحولاً لافتاً باتجاه التبعية والطاعة؛ حتى في الأمور الشخصية كما ذكر خزعل متحسراً في كتاب استغاثة واستجداء؛ بعثه للميجور مور الوكيل البريطاني في الكويت كي ينقذه من رضا خان؛ فلم يفعل!
وكان خزعل قاسياً على شعبه، وأرهقهم بالمظالم والجبايات، وبالمقابل فقد غرق في اللهو والملاذ، وساعد في بناء كنيسة ومحفل ماسوني في بلاده! وفتح خزائنه لأي راقصة أو مغنية؛ بيد أنه لم يكن بخيلاً في أعمال البر؛ خاصة ما اتصل منها بالنجف أو بعلماء طائفته الشيعية، كما أسهم في ترميم المسجد الأقصى. وكان مفرطاً في الجنس حتى تجاوزت زيجاته الستين، وقال عنه رضا شاه في مذكراته: “إن تجعدات الإفراط الجنسي تظهر على وجهه”! وحصل على أوسمة من السلطان العثماني، ومن شاه فارس وملك بريطانيا؛ بل وحتى من البابا في روما! وكانت السفن البريطانية تطلق له مدافع التحية كلما مرت في شط العرب أمام قصره؛ اعترافاً بمتانة العلاقات معه؛ ولم تنفعه هذه المتانة حين قررت حكومة الإنجليز انتهاء دوره على مسرح السياسة المنصوب على ضفة الخليج!
وتحدث الفصل الرابع عن السياسة الداخلية لإمارة عربستان، فالأمير غالباً يملك سلطة مزدوجة؛ فهو أمير البلد وشيخ القبيلة، وله جميع الواردات وعليه كافة المصروفات؛ يعني كأنه أب وباقي الشعب أولاده القاصرين! وعيَّن خزعل أبناءه حكاماً على مناطق الإمارة لكنه يغيرهم باستمرار، ولا يُذكر أنه أبقى ابناً له حاكماً على منطقة دون تبديل، وأما عقابه للمجرمين فقد كان رادعاً؛ ومن عقوباته سمل العيون، أو وضع المتهم في “الجاروشة” وهي مكينة تلتهم الإنسان وتجعله أوصالاً مقطعة، وربما يرسل “المجرم” إلى الشهلة؛ وهي جزيرة في الخليج يموت المرء فيها عطشاً وجوعاً.
ولخزعل قصر باذخ يسمى “الكمالية”؛ مفروش بسجاد مزركش بالذهب، ومؤثث بأروع تأثيث، وعلى سطح القصر إضاءة قوية ليهتدي الناس إليه تشبهاً بضوء نار حاتم الطائي، وغدا قصره اليوم خراباً يراه العابر على شط العرب. ويمتلك الشيخ سفناً تجارية، وزوارق صغيرة تنقل الناس والبضائع بأجر يصب في خزانة خزعل، وهو مولع بالكتب؛ وله مكتبة حوت نفائس المطبوعات النجفية، وافتتح عشرة كتاتيب في المحمرة لأبناء الناس؛ وأما أولاده فقد أوفدهم لمدرسة الرجاء العالي التبشيرية في البصرة التي أسسها المستشرق الأمريكي جون فانيس عام (1910م).
والفصل الخامس عن علاقات الشيخ خزعل العربية، وابتدأها بالصلات مع الكويت ونجد، ثم بالصلات مع العراق وخاصة مع البصرة وطالب النقيب، وقد أسلفت إشارة المؤلف إلى التشابه الكبير بين شخصيتي خزعل ومبارك سواء في زمان وطريقة توليهما الحكم (خزعل اغتال أخاه مزعلاً عام (1897م) مقتدياً بصديقه مبارك الذي اغتال أخاه محمداً عام (1896م)، وفي انكبابهما على الترف والعبث، وفي موقفهما الممالئ للإنجليز؛ وعدائهما لابن الرشيد حاكم حائل، وانضمامهما إلى عضوية جمعية الاتحاد والترقي! ومن جميل ما يذكر لأهل الكويت-نضر الله وجوههم- أن مباركاً أمرهم بنجدة خزعل ضد شعبه الذين تأبوا عليه في عون الإنجليز على قتال العثمانيين؛ فرفض جل الكويتيين ذلك قائلين: نموت على الإسلام خير من أن نموت على الكفر!
وبعد وفاة مبارك سعى خزعل غير مرة في الصلح بين الشيخ سالم الصباح والإنكليز، أو بينه وبين الملك عبدالعزيز؛ بيد أن علاقات خزعل لم تكن حسنة مع أحمد الجابر (1921-1950)؛ مع أن أحمد مائل للإنكليز مأتمر برأيهم، ومع ذلك فلم ينجد خزعلاً –صديق الإنكليز الوفي جداً- ولم يمده بالسلاح لمقاومة جيش رضا خان، وقد كان أحمد يتذرع في رفضه بوجوب موافقة بريطانيا التي يبدو أنها أخبرت صديقها ابن صباح بأن مصير خزعل لم يعد مهماً لها؛ وفهم هو المقصود بدوره على عادة التابعين في فهم الأوامر بدرجة أبعد مما يريد مصدرها أحياناً؛ وأولئك يتفرجون قائلين: لم آمر بها ولم تسؤني!
وبحث الفصل السادس مسألة الشيخ خزعل والاحتلال البريطاني للعراق، وقد نقل المؤلف عن برسي كوكس وجروترود بيل تزكياتهم لمواقف شيوخ الخليج من احتلال العراق وماقدموه من عون كبير لبريطانيا، حتى قالت بيل أن صداقة شيخي المحمرة والكويت لا تقدر بثمن -وهي تقصد في تلك الفترة لأن صداقة شيخ المحمرة بعد عشر سنوات من قولها صارت مجانية بل عبئاً يجب التخلص منه-.
وأعان الشيخ خزعل طوال مراحل الاحتلال الإنجليز في عدوانهم على المنطقة، متجاهلاً الرأي العام في إمارته التي وضعها مع ممتلكاته تحت إمرة الإنجليز؛ وهم بدورهم شكروه وأكدوا له التزام بريطانيا بحمايته، ورعاية ممتلكاته، والالتزام بتوارث عرشه للذكور من صلبه؛ مشترطين دوام التنسيق معهم، ومن العبر أن خزعلاً لم يكمل عمره حاكماً؛ ولم يعتل العرش بعده أحد من ولده، ومن تعلق بشيء دون الله وكله الله إليه.
وكان خزعل يمني نفسه بعرش العراق، ويتواصل مع قيادات العراق لأجل ذلك، ويلمح للإنجليز ويصرح، وما عرف أنهم قد حسموا أمرهم، واختاروا أنسب أتباعهم لعرش العراق متجاوزين خزعل لأسباب كثيرة؛ منها أن غالب العراقيين يرونه إيرانياً شيعياً؛ وهو مالم تقرأه أمريكا في احتلالها للعراق حين سلمته لإيران ورجالاتها عجل الله بطردهم جميعاً من عراقنا الأشم. ومن الطريف أن خزعلاً استنجد بنوري السعيد وجعفر العسكري فرفضا عونه؛ معللين ذلك بأنهم ضباط في الجيش، وقد أقسموا على ترك الخوض في السياسة؛ لكن نوري السعيد صار رئيساً للوزارة ثلاث عشرة مرة، ومارس جعفر العمل السياسي، وما أهون قسم كثير من العسكريين وأيمانهم!
أما الفصل السابع فعن تطور النفوذ الأجنبي في عربستان؛ وهي نموذج لما ابتليت به البلاد الإسلامية ولازالت مبتلاة تحت مسميات مختلفة، فمن نفوذ برتغالي إلى نزاع هولندي بريطاني، ثم بريطاني روسي، حتى دخلت فرنسا وألمانيا على خطوط النزاع، واللافت أن حكام المنطقة فضلاً عن أهلها لارأي لهم في شؤون بلادهم؛ خاصة بعد تضعضع دولة الخلافة، وتقلص نفوذها، واستقلال عدد من الأقاليم عنها بتشجيع أجنبي غالباً.
وقد أطنب المؤلف في تفصيل الخلاف الروسي البريطاني، ومن طريف ماذكره أن بريطانيا رفضت إبرام معاهدة حماية مع خزعل بحجة تبعيته الاسمية للشاه، وفي ذات الوقت وقعت عام (1899م) معاهدة حماية مع مبارك الصباح مع أنه كان تابعاً للدولة العثمانية، وأغضب ذلك الامتناع الشيخ خزعل إلا أنه كرر محاولته طالباً مساواته في المعاملة بأمير الكويت؛ بيد أن بريطانيا رفضت طلبه، ولم يحسن خزعل قراءة رفضها على أنه مؤشر إلى علاقة غير طويلة، واستمر والغاً في ذل التبعية حتى أنهى رضا خان حكمه.
والفصل الثامن بعنوان الشيخ خزعل ومقاومة التدخل الفارسي، حيث ظلت عربستان تعيش في هدوء واستقرار؛ غير متأثرة بالفوضى التي عمت أرض فارس المبتلاة بحكام يقدمون اللهو على مصالح الأمة، ويسرفون في التبذير على نزواتهم محملين خزينة الدولة أوزار شهواتهم، حتى استولى العسكري رضا خان على عرش البلاد متزامناً مع شبيهه كمال أتاتورك -تحدث محمد أسد في رحلته المنشورة عن رضا خان وشيء من سيرته-.
وهاجم رضا خان -صديق الإنجليز- الشيخ خزعل -صديق الإنجليز الآخر-، واستنجد الأخير بالملك فيصل الأول والشيخ أحمد الجابر-صديقي الإنجليز- فلم ينجداه بل قلبا له ظهر المجن، وتدخلت بريطانيا تدخلاً لطيفاً جداً لدى رضا خان؛ وملخص تدخلها إياك والرعايا الإنجليز ومصالحهم، ثم وجوب الحفاظ على حياة خزعل وأولاده وليس على حكمهم كما وعدوا، مع تجنب نشوب القتال قدر الإمكان. ولم تنفع يقظة خزعل المتأخرة؛ ولا تودده لقبائله أو استنجاده بعصبة الأمم-التي خلفتها هيئة الأمم بذات النهج-، وعندما استولى رضا خان على عربستان تعاقب قنصلا روسيا وبريطانيا على زيارته في الناصرية وتهنئته، وأعلن رضا لشعب عربستان أنهم كإخوانه وأبنائه ليطمئنوا تمهيداً للتنكيل بهم، وما أحمق تصديق الطغاة.
وطلب الجنرال زاهدي إقامة حفلة وداع لخزعل ليلة السابع والعشرين من رمضان، فلبى الأخير واستعد لليلة من لياليه الحمر في المحمرة، ولكن ما إن بدأت الحفلة والرقص حتى صعدت مجموعة عسكرية إلى الباخرة لتقطع على خزعل نشوته، واقتادوه أسيراً مع ابنه عبد الحميد، وحملوه على البغال إلى طهران، وفي العشرين من أبريل عام (1925م) زالت إمارة آل مرداو من عربستان دون ردة فعل تذكر من العشائر، التي كانت تعيش عزلة عن شيخها المستأثر بالنعم، والصاب عليهم صنوف النقم، ولذا صمتت هذه القبائل عن اختطاف أميرها؛ ولم يدر بخلدها أن هذا الحادث اختطاف للإقليم بعروبته وخيراته وتاريخه.
وعاش خزعل أسيراً في إيران مدة أحد عشر عاماً؛ ثم مات في حال غامضة لم يكشف سرها بعد، وكانت وفاته سنة 1355=(1936م) عن عمر جاوز الرابعة والسبعين-وقد ولد المؤلف في هذه السنة-، ورفضت الحكومة الإيرانية طلب أسرته بأن تنقل جثمانه لمقابر الأسرة في النجف، وبقي في إيران لمدة (19)عاماً؛ حتى أذنت حكومة الشاه في طهران بنقله للصحن الحيدري عام 1374=(1955م)؛ حيث دفن رفاته إلى جوار أبيه وأخيه.
وبسط المؤلف الحديث عن سبب نكبة عربستان، وأحالها لعوامل داخلية وأخرى خارجية، فمن العوامل الداخلية بطش خزعل بشعبه واحتقاره لهم، وتبعيته الفجة للإنجليز حتى لو أغضب شعبه الذي يكره ذلك، ومنها تبذيره للمال الذي نهبه من خيرات الإمارة، أو جباه من المواطنين، وغفلته عن تكوين جيش مهم مع أنه يعيش في محيط مضطرب- بدأت بعض دول الخليج أخيراً بفرض التجنيد على شبابها-، ومن الأسباب أن خزعلاً وأولاده لم يكونوا على وفاق وصفاء فيما بينهم، وأذكر في هذا السياق حكمة فارسية تقول: المُلك عقيم! وتطبيق خزعل لها واضح فقد قتل أخاه، ولم يثق بأولاده.
ومن الأسباب الخارجية ظهور رضا خان على مسرح الأحداث؛ وعزمه على إنهاء حكم خزعل أو يدفن في مقابر المحمرة كما قال، وكان هذا الرجل قومياً متعصباً لقوميته، وجهد في محارية أي أثر عربي في عربستان، وكان يطمح لضم البحرين لولا أن بريطانيا منحته عربستان كتسوية، وقد أوصى ابنه بقوله: ” لقد حررت الشاطئ الشرقي للخليج من العرب، وعليك أن تحرر الشاطئ الغربي”، ويبدو أن الابن احتفظ بوصية أبيه حتى عوضته بريطانيا باحتلال جزر الإمارات وعمان عام (1971م) عن احتلال البحرين، ولا ندري أي أمر ستفعله أمريكا خليفة بريطانيا على الخليج مع الملالي في طهران، الذين خلفوا الشاه وجمعوا القومية المتطرفة والطائفية البغيضة؟
ومن الأسباب الخارجية موقف الإنجليز الذي فجع خزعلاً؛ حيث اتفق الإنجليز مع الروس-حلفاء إيران- وكانت عربستان الضحية، وقد خلف الموقف الإنجليزي حسرة في قلب خزعل الذي لم يكن له عيون ينقلون له ما يدور في كواليس ومجالس سيدته المملكة المتحدة، حيث وقف اللورد بلفور في مجلس اللوردات بتاريخ 19 مارس (1925م) قائلاً :” إن إنكلترا لم تعتبر الشيخ خزعل يوماً ما حاكماً مستقلاً، بل كان في نظرها-على الدوام-خاضعاً للسيادة الفارسية”، ولو استبان له هذا من قبل لما تحسر، ولو وعى التاريخ أو درس سير خونة أممهم لما توقع غير ماحدث له. وأشار المؤلف إلى أن المنطقة العربية كانت منشغلة في صراعات بينية، وثورات شعبية، أو واقعة تحت احتلال أو في حرب مع عدو غاشم؛ مما أعان رضا خان على ابتلاع عربستان دون عناء، كما أنحى المؤلف باللائمة على حكومات العراق التي تطالب بالكويت في حين أن مطالبتها بعربستان أولى.
ثمّ ختم المؤرخ كتابه بملاحق للوثائق وخرائط؛ وليته صور المكاتبات الخطية ومخطوطات آل خزعل وآل باش أعيان كي تعطي الكتاب قيمة علمية أكبر؛ خاصة أن بعضها محفوظ في مكتبته كما ذكر. ومن ضمن الملاحق الأربعين ملحق بحكام الكويت من آل صباح، واللافت أن مدد حكم غالبهم طويلة باستثناء ابني مبارك الكبير-جابر وسالم- الذي قتل أخويه محمد وجراح، وفي قائمة المراجع كتب المؤلف تعريفاً مختصراً ببعضها، أو أوضح رأيه في بعضها الآخر، وهي طريقة لم أشاهدها من قبل.
واليوم؛ بعد أقل من مائة عام على احتلال إيران لإقليم عربستان، تعود الأحداث من جديد إلى سخونة أشد من حرارة الصحراء، واضطراب أقوى من تلاطم الأمواج، ولا ندري ماذا ستفعل حكومات الخليج المختلفة فيما بينها تجاه الحضور الإيراني المتعاظم في المنطقة خاصة بعد المفاوضات العلنية مع أمريكا وبقية الأقوياء؛ والله وحده الذي يعلم كيف ستكون التسوية وهل فيها كبش فداء؟ وتبقى على الشعوب مسؤولية لن يعفيهم منها أن حكوماتهم لا ترجع إليهم في أمر، فحماية دين الناس، وأنفسهم، وأعراضهم، وديارهم، وأموالهم، ومستقبلهم، ليست قابلة للتفويض المطلق، ولابد من المشاركة الشعبية الراشدة في حفظها وتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة؛ حتى لا يجيء يوم تتكرر فيه المآسي، والتاريخ صفحة من العبر مفتوحة لمن شاء أن يقرأ دون أن يُغمض عينيه، أو يلغي عقله، فالسنة ماضية ماضية، ولن يسعنا إلا أن نهرب من قدر الله إلى قدر الله بالعمل الجاد الدؤوب.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 13 من شهرِ شعبان عام 1435