مواسم ومجتمع

الخوارج: فتوّة بلا رشد!

الخوارج: فتوّة بلا رشد!

هذه ملامح عن الخوارج، لعلّها أن تفيد في التّحذير من مسلكهم، وكيفيّة التّعامل معهم، وهي ليست عقديّة فقط وإن كانت تنطلق منها، فتخوض في أحداث التّاريخ، وتجول مع شؤون الأدب، وتقف عند عالم النّفس والاجتماع، ولن تخلو بإذن الله من إيقاظ وعي وزيادة معرفة، ولعلها أن تقود لحسن التصور ودقة الفهم.

تعود بدايات فكر الخوارج إلى اعتراض ذي الخويصرة التّميمي على قسمة النّبي عليه الصّلاة والسّلام للغنائم، ثمّ استند خلافهم مع الآخرين على مسألة الإمامة، ومن عجبٍ أنّ هؤلاء القوم اشتهروا بشظف عيش، وصلابة تعبّد، وإيغال شديد في التّدين، وطول غير معتاد أثناء الصّلاة وتلاوة القرآن؛ ومع ذلك فشؤون الدّنيا كانت باعثهم الأوّل للعنف والفرقة!

انبثقت فرقة الخوارج من تحت عباءة اليهودي عبدالله بن سبأ، الذي يحمل وزر ظهور فرقة الشّيعة، فمنشأ الفرقتين من مصدر واحد يستقي من يهودي مشبع بالحقد والعداوة، وتشتركان في ضراوتهما على أهل الإسلام، وموادعتهما لأهل الكفر والوثنيّة. ومن آثار المذهبين أن أعاقوا تقدّم الدّول المسلمة، وحالوا دون امتدادها، واستمرار حركة الجهاد والدّعوة إلى الله، وكم من مرّة شغلتا الحكّام، وكم من مرّة استثمرهما الحاكم لصالحه، وليس بمستغرب لو تبّدت صلات لجماعات الغلو والعنف والانحراف بدول ودوائر معادية.

ومع أنّ الخوارج والشّيعة اكتسبوا التّسمية من عمل سياسي، وغالب ذكرهم في التّاريخ متعلّق بالحكم والسّياسة، إلّا أنّهم لم يكوّنوا دولة إسلاميّة كبيرة ذات تاريخ ناصع وأثر حميد، وإنّما اشتركوا في إشاعة الفوضى بديار المسلمين ومواسمهم، ولم يعرف عنهم أيّ قتال يستحق الذّكر مع اليهود، والنّصارى، والمشركين، وأعداء الأمّة.

ومنذ القدم كانت عُمان العربيّة الأباضيّة وثيقة الصّلة بجوارها الفارسي الشّيعي، قياسًا ببرود علاقاتها مع محيطها العربي السّنّي، ولا يذكر التّاريخ بينهما حروبًا مهمّة، مع أنّهما على النقيض تمامًا في الاعتقاد بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونعاصر ذلك فيما نشاهده من الوداد العماني الإيراني، والرّوابط العمانية الحوثيّة، ولا يشمل هذا عامة أهل عمان العزيزة، ولا كلّ الأباضية.

يغلب على الخوارج أنّهم أجلاف أخذوا من الدّين رسومًا وغابت عنهم الحقائق، ويتربّع على أشهر أربعة فرق من طوائف الخوارج رجال أشدّاء من بني تميم ومن بني حنيفة، ولأوائلهم مشاركة غير محمودة في فتنة مقتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه، ولست بمغرب لو قلت بأنّ اغتيال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه دُبّر تقدمة لإيجادهم، وأمّا الغدر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فمنسوب لهم دون نكير.

ومن صفات الخوارج البارزة كثرة العبادة، وغلبة العاطفة، وندرة العلم بينهم بل وتحذيرهم من أهله، ونفورهم من أيّ مظلمة بطريقة أشنع من المظلمة ذاتها أحيانًا، ويعظم فيهم الهوى، والتّعصب، والكبر، والغرور بالقوّة، والرغبة العارمة بالموت، وأمّا الأولويّات لديهم فتعاني من اضطراب لا يستقر، وما أكثر انشطارهم، وتكفيرهم لبعضهم، وانشقاقهم على زعمائهم لدرجة القتال بضراوة.

ويحفظ التّاريخ آثار المناظرة الشّهيرة بين حبر الأمّة ابن عبّاس رضي الله عنهما وبين جموعهم، حيث عاد منهم كثير بعد أن أنار العلم لهم الطّريق، وكشف الحجب التي صنعها الشّك والجهل والاستعجال. كما يحفظ التّاريخ أنّ حوار عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه معهم، وعدله الكبير، أثمرا في إخماد أكثر ثوراتهم داخل نفوسهم، والتزم عظيم بني مروان بمجانبة ظلمهم، والبعد عن تهييجهم، والتّوضيح المتكرّر لهم، مع اشتهار زهده وعفته وأمانته، فسكن جلّهم، ومن لم يرتدع منهم فلا علاج له إلا بسيف باتر.

ومن أكبر الأخطاء التي تقود الخوارج غلوّهم في الولاء والبراء حسب الموقف من أشخاص، وأعمال، واقتصار نظرهم على نصوص دون ما يقابلها، وتركيزهم على وقائع مع إغفال غيرها، وهذه بليّة يقع فيها من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ولذلك يهتدي بعضهم حينما يرى الصّورة الكاملة، ويتشارك المرجئة مع الخوارج في ذات العلّة المجزئة لنصوص الشّريعة، وحمى الله أهل السّنة بأخذهم النّصوص كلّها، وجمعها وفهمها؛ فأصبحوا أمّة وسطًا.

وكما يغلو الخوارج في المعاصي والإمامة، فلهم غلوّ في إسقاط رموز الأمّة ورجالاتها، واسترخاص الدّماء، وانتهاك الأعراض، واستحلال الأموال، ولهم باع لا يشكر في الغضب وإضرام المعارك، وكم في الغلو من كوارث على الفرد ومجتمعه، وكم في التّوسط الشّرعي من بركات وسلم ونماء وأمن، وربّما يتفاجأ بعضنا إذا علم أنّ المرء قد يعتنق مذهب الخوارج وهو نائم في فراشه دون سفك أو هتك، وبالمقابل فليس كلّ اعتراض يلقي بصاحبه في خانة القوم.

ولم يكن الخوارج من الرّجال فقط، فهناك روايات عن أخبار الخوارج من النّساء، ويشترك غالبهنّ في الشّجاعة، وجسارة القلب، والفصاحة، وحضور الجواب، والجمال، وأسماؤهن كثيرة ما بين جمرة وغزالة، وقطام وعمرة، وعميرة وكحيلة، وليلى وحمادة، والبلجاء والجديعاء، وأم علقمة وأم حكيم زوجة قطري التي سئمت من حمل رأسها الثّقيل.

ومن أخبارهنّ أنّ قطام عاملها الله بما تستحق سلبت عقل المجرم ابن ملجم، واشترطت عليه اغتيال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كي تقبل به زوجًا، ونقلت زوجة عمران بن حطّان زوجها إلى مذهبها الخارجي وكان الشّاعر المسكين ينوي أن يعيدها للحق؛ فلم يفلح، وأرعبت غزالة الحجّاج مخيف الرّجال الأشاوس، ودخلت المسجد لتصلّي ركعتين قرأت فيهما البقرة وآل عمران إن صحت الرواية.

ويحلم النّاس بعالم خال من الخوارج وأضرابهم، بينما تخبرنا عبر الأزمان عن أمرين، أوّلهما: أنّ هذه الحركة مستمرة ولن تنقضي إلّا مع قيام السّاعة، وثانيهما: لا تكاد تخلو أمّة من فئة تشابه الخوارج؛ بل إنّ بعض الحضارات والأمم يتأصّل فيها البطش والعنف؛ وإن أظهروا للعالم وجوهًا ناعمة، ونطقوا بكلام مؤنث لطيف، والأمر الأهمّ أنّ نصوص الإسلام، وتطبيقاته في أزهي عصوره، بريئة من هذا الفكر وإن حاول الأعداء والمغفّلون إلصاقه بنا.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الثّلاثاء 29 من شهرِ الله المحرّم عام 1440

09 من شهر أكتوبر عام 2018م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)