قراءة وكتابة

قلم ينير الخافقين!

قلم ينير الخافقين!

قبل سنوات مضت، قدّمت برنامجًا للتّدريب على الكتابة، لصالح بضعة عشر طالبًا، جلّهم يدرسون الماجستير في أحد المعاهد الشّرعيّة العالية، ومعهم مهندس واحد، ومع أنّي لا أحب تقديم هذا البرنامج لمن تجاوز المرحلة الجامعيّة، إلّا أنّ شافعهم أثير لا يرّد، وهم أهل إصلاح وبركات في مجتمعاتهم.

وخلال الّلقاء، تداولنا نقاشات، ونجمت أسئلة، وكنت مع أناس في قمّة النضج، والجدّيّة، ولأجل ذلك أمسى أولئك الأصحاب مشاركين فاعلين في البرنامج، وليسوا مجرّد منتظرين لما يلقى عليهم، والتّجربة تعلّمنا أنّ نشاط المشاركين، وعلو همّتهم، ومباحثاتهم، ونبشهم الجميل، أمور تفيد أستاذهم كثيرًا، والله يجعلنا ممّن يطوف حول الفوائد آخذًا ومعطيًا، ونعوذ بالله من حال فئام غاية مناهم التّطفل على الموائد بنهم جائع ذي جوف لا يشبع.

ولا تزال الكتابة مع شؤونها، قضيّة حيّة ما بقي قلم، وقرطاس، وأناس، ولأجل ذلك، يزداد الحرص على تعلّمها، والمشاركة في نواديها، وروابطها، وحضور برامجها التّعليميّة والتّدريبيّة، حتى يشعر الكاتب أنّه خرج من شرنقة الصّنعة والتّقليد إلى فضاء التّفرد، وبناء الأسلوب، وتلك مرحلة ليست عسيرة، بيد أنّها تستلزم الاحتشاد لها، وصرف الوقت، والمال، والجهد، فالبيان هبة الله لبني الإنسان، وإتقانه نعمة إضافيّة، وسحر في يد صاحبه وعلى لسانه، وهو بالخيار حيث هداه الله النّجدين، وإنّه لمسؤول.

وخير ما يعين الكاتب، ألّا يكسل ذهنه، أو يخمل عقله، بل يظلّ في حال استعداد وتوثّب دائم، لاقتناص فكرة من هنا، ودمج معلومة مع أخرى، وإعادة تركيب حدث، وتفكيك آخر، وجمع متفرّقات، والمقارنة بين متشابهات، والبحث عن علاقة محتملة بين وقائع، وإطلاق سراح الخيال ليسبح، وكم في الفضاء من بحار لا يغرق فيها أحد، وليس لها دون السّماء حدود.

ومن واجب القارئ على الكاتب ألّا يضيع وقته بنشر عفو خاطره، وسوانح نفسه، وشوارد فكره، إلّا بعد تصفية، وتقليب النّظر فيها، وإجراء التّفكير بأنواعه، وجمع أيّ معلومة ذات صلة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبعد استفراغه الجهد، وبذله الوسع، ينظم أفكاره في درر من البيان لا يستغلق على ناشئ، ولا يزدريه أديب، ويفهم ظاهره كلّ أحد، ويغوص في بواطنه من العالمين أريب.

ونجاح الكاتب مقترن بما سيصنع من أثر ووعي في نفس القارئ، فضلًا عن الأسئلة التي تجتاح نفوس القرّاء، فيكون إنتاج الكاتب مجيبًا عنها، أو مخبرًا عن طريقة فهمها، وبلوغ مظانّ إجاباتها، ومن أعلى المستويات في الكتابة، أن يخرج القارئ بعدها بمجموعة من التّساؤلات التي قد تذيب رواسب راسخة لا برهان عليها من دين، ولا سلطان من علم، ولا شاهد من تجربة، وتلك قمّة لا يقف على شواهقها الباسقة أيّ أحد.

وحري بالكاتب ألّا يجفل من اختلاف فهم الآخرين لما يكتب، فالبعض يكتفي بما يرى، بينما يعتصر آخرون الكلمات حتى يقطر منها عسل شافي، أو سم ناقع، أو زيت يضيء، بحسب نفسيّة القارئ، وبيئته، وخبراته، وموقفه من الكاتب، والشّأن الأكثر أهميّة أن يحتفي الكاتب بقارئه، فكما تعب كي يكتب ما لا يهبط بقيمته، فعليه أن يمنح فائق عنايته لملحوظات القرّاء، ومن البدهي أنّ العناية ليست هي الموافقة الدّائمة، أو التّسليم المطلق بمضمون آرائهم.

ومن الإشارات التي تضمن للكاتب النّجاح، أن يرسل نفسه على سجيتّها حين يكتب، ويتركها على طبيعتها، ولا يفهم من هذا إهمال المراجعة، وهجر التّنقيح، فهما من الضّرورات، ومن أطعم مراحل الكتابة وأمتعها، وغاية المقصود ألّا يتقمّص الكاتب شخصيّة غيره في كلماته، أو أسلوبه، أو فكره، أو تحليله، فكاتبنا يبين عن نفسه، وينطق باسمها، والله سائله قبل النّاس.

وكما أنّ الكتابة شفاء للنّفس من همومها، وانفراج من الكدر في حينه، فهي من الإرث الباقي، والعمل المستمر، وجدير بكلّ من وهبه الله القدرة على عمل شيء يمتلك القابليّة للبقاء، والانتشار، والتّأثير، أن يجعله في سياق مرضات الله، وطلب ما عنده، فلا أحد يدري ما هي حسنته المقبولة النّامية الرّابية عند مولاه؟!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الثّلاثاء 15 من شهرِ الله المحرّم عام 1440

25 من شهر سبتمبر عام 2018م

Please follow and like us:

One Comment

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ووفقه لما يحب ويرضى
    هنينا لك. ولكل كاتب . وهبه الله العلي القدير . القدرة على على كتابة مقا لات هادفة ونافعة وموثرة ومرضية لله تعالى .داعية بقلب حاضر ان تكون حسناتهم مقبولة ونامية ورابية عند الله . فهي للقارئ ايضا شفاء للنفوس من همومها . وانفراج من الكدر ايضا . جعل الله في كل ماتكتب في ميزان حسناتك وحسنات والديك وعائلتك الكريمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)