باحثون عن ملاذ!
قبل خمس سنوات، عاد صاحبنا إلى داره بعد أن فرغ من صلاة الجمعة، وقبل أن يجلس مع أهله كعادته، سمع منبّه الإشعارات في هاتفه، ثمّ لمح أنّه أصبح عضوًا في مجموعة وتسيّة جديدة، ومع أنّه لا يرتاح لهذا التّطبيق ومجموعاته؛ ويرى من نكد الدّنيا حتميّة استخدامه؛ إلّا أنّ اسم المجموعة، ومن أنشأها، كانا عاملا جذب، فدلف إليها؛ وهاله من فيها من أعضاء يعرف أكثرهم، وإنْ تملّكه العجب من وجود من لا يتوافق حاله مع مسمّى المجموعة، فضلًا عن علاقة منشئها بموضوعها من الأصل!
تضم هذه المجموعة الوتسيّة أعضاء من تخصّصات مختلفة، ففيهم العالم، والقاضي، والمفتي، والأكاديمي، والمهني، ورجل الأعمال، والإعلامي، ولأغلبهم نشاطات أخرى ثقافيّة، وإغاثيّة، وإنمائيّة، وخيريّة، وهم من بضعة بلدان، وأجيال عمريّة مختلفة، وبين بعضهم معرفة متينة أو سطحيّة، وأصبحت المجموعة فرصة للتّعارف بين آخرين، أو لتوثيق الصّلة.
واشترط الرّئيس على الأعضاء الالتزام بنظام صارم، من قواعده ألّا يخرج أحد منهم عن محور المجموعة، وألّا يكون بعضهم كالمراقب أو المتفرّج، فلا مناص من المشاركة الفاعلة، ولذا فبعد مرور أربعين ليلة حذف الرّئيس خمسة عشر عضوًا رأى أنّهم لم يتفاعلوا، واستبدلهم بآخرين بناء على اقتراح الأعضاء، وكانت إضافة مميزة باهرة، وكم من مرّة وأخرى تعلّق العضويّة، أو تجمّد، فتتوالى الشّفاعات للعضو المعاقب، حتى يعود إلى بيئته التي لا يكفّ الخارج منها عن الحنين إليها بصبابة ولوعة.
ثمّ عقدت المجموعة لقاءها الأول في بستان عامر، فتعاظمت الوشائج، وقويت العلائق، وكان الّلقاء أشبه بنفخ الرّوح في الجنين، واستمر نشاط المجموعة، سواءّ من خلال الّلقاءات، أو تنفيذ رحلات داخليّة وخارجيّة، كما التقى جلّ الأعضاء في رحاب مكة خلال المواسم غير مرّة؛ لأنّ أعضاءها المكيين وآلهم أهل كرم بالغ، فلم يتركوا رفاقهم ورفاق رفاقهم إذا ما قصدوا البيت الحرام لحج أو عمرة، ومن الطّريف تجاورهم في مجالس الحج، ونعتهم بالنّادي النّووي، بينما نقل نجل أحدهم عن والدته وصفها لهم بأنّهم هيئة الضّلالة!
وتوّثقت الصّلات بينهم، فصاروا من أوّل الحضور في مناسبات الفرح أو العزاء، واستثمروا لقاءهم الشّتوي السّنوي، بإقامة برامج تدريبيّة من قبل كلّ عضو فيما يحسنه، فالحديث تارة عن الاستثمار، وثانية عن التّربية، وثالثة عن السّفر ورهاب الطّائرات، ويتخلل جلساتهم ملح، وطرف، وأشعار يلقيها شاعرهم الغزلي، ويترنّم بها منشدهم بصوته الجميل.
اتّفق الأعضاء في مبتدأ أمرهم على تغيير اسم المجموعة الصّريح مراعاة للخواطر، فأطلقوا عليها أولًا اسم الفرسان، ثمّ أبدلوه هروبًا من تزكية الذّات إلى “ملاذ قلب”، ومن تراتيب هذه المجموعة أنّ اسمها وشعارها لا يتغيران إلّا بواسطة المشرفين بعد مشاورة الكافة، ومن خدمتها لمن هم خارجها إتاحة إضافة أيّ مستفيد لفترة مؤقتة؛ كي ينهل من خبراتهم قبل أن يتقدّم أو يتأخر.
كما حصدت المجموعة شهرة واسعة، وأصبح الحديث عنها متداولًا في بيئات ومجتمعات، والسّؤال عنها وعن إمكان الانضمام إليها يتكرّر بين فينة وأخرى، حتى أنّ أحد كبار مشاهير وسائل التّواصل الاجتماعي قال بأنّ “ملاذ قلب” هي المجموعة الوحيدة التي طلبت من مديرها إضافتي، وهي المجموعة الوحيدة التي أُخرجت منها!
ولأعضاء المجموعة أسماء رمزيّة يتعارفون بها، ويستخدمونها خلال التّصويت والحوار، فالعم من أكبرهم سنّا وأقدار الجميع عالية، والشّيخ قاض نحرير، والمفتي فقيه له كرسي إفتاء، وحاتم كريم سخي، والمسك صاحب طيب عبق وصوت عذب، وملك الرّشاقة مسكون برياضة المشي، والخيّال مفتون بالخيل وركوبها، والسّلطان سلطان على القلوب، وأهل بيته يسمّونه في مجموعتهم الخاصّة بالسّلطان!
وأمّا آخر سطر فلا يشارك إلّا في نهاية القصّة، والآسر فريد بأخلاقه، والصّاعقة طيّار سابق مغرم بالاكتساح، والطّوفان يأبى أن يحضر إلّا بقوّة دافقة، وأفكار تغييريّة، ورمز الحبّ مسلاخ امتلأ حنانًا، وصاحب حائل بعد حيي، والوجيه الباكستاني نائب عن بلاد الهند، بينما العالم اليمني نائب عن اليمن السعيد، وللمغرب الأنيس نائب فقيد.
ولبعض الأعضاء ألقاب رنّانة، فمنهم الإمبراطور، والجنرال، والملهم، ومثلّث برمودا، وللأدب حضور بينهم، فشاعرهم المتيّم مجنون ليلى، وأديبهم أمير البيان، وهما كاتبان، فيما يحتفظ مدير المجموعة، وصاحب فكرتها، بلقب الرّئيس، ولم تخلو رئاسته من مشاكسات ومناورات، بيد أنّ الله سلّم، فهو حكيم، وأصحابه عقلاء، والمصلحة العامّة مقدّمة لديهم.
ويقول الرّئيس إنّ من أهم عوامل ثبات المجموعة، واستمساك أفرادها بها، بعد نوعيّة المصطفين لها، ما كان يلقيه السّلطان من طرف ممزوجة بالفائدة العميقة، فتلّطف الأجواء، وتنقلنا بين الجدّ والمرح، إضافة إلى خبرات الإمبراطور ونظراته الثّاقبة، وكان لقاء البستان الأوّل علامة فارقة في مسيرة المجموعة، ومن الموافقات أنّ الإمبراطور في ذلكم الّلقاء كان مستضافًا للحديث، فما خرج من المكان إلّا وهو عضو فاعل من المجموعة؛ بل ركن ركين فيها.
ويضيف رمز الحبّ بأنّ التّخصص الذي يجمع الخبرة مع المعرفة في مكان واحد هو سرّ نجاح ملاذ، بينما يؤكّد الشّيخ على أنّ موضوع المجموعة من جماليّات شريعة الله وكلّها جمال، ويعترف نائب اليمن بأنّ الله حباه بهذه الكوكبة النّيرة التي أضافت له الكثير، ويستطيع كلّ فرد منها أن يرسل نفسه على سجيّتها، حيث صنعت لهم المجموعة بيئة اعتراف، وفضفضة، ونقل تجارب كما يقول الآسر الذي يرى أصحابه مرجعًا، ووقودًا، وزادًا لا يملّ.
ويسهب الملهم في الحديث عن ملاذهم، فيرى فيه التّنوع، والعمق، والفوائد، والتّفاهم، والتّعاذر، مع حسن الإدارة، وتجددّ الشّوق إلى اللقاء، حتى أنّه كلما دخل إلى “جنة الملاذ”، تمتم بما شاء الله لا قوّة إلّا بالله؛ كي يحميها من الزّوال أو الاضمحلال، ويجزم صاحب المسك أنّ هذه الرّابطة كانت منبعًا للفوائد، ومأرزًا للمهموم، وكم من بهجة أو فرح جاء من طريقها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
تجمع ملاذ عددًا من الرّجال المعدّدين الذين لا يرون التّعدد شجاعة وغلبة، بل ضرورة أو حاجة، أباحتها الشّريعة الغرّاء وجعلت لها أحكامًا دنيويّة، وتبعات أخرويّة، وفيهم من لديه زوجتان أو ثلاث أو أربع، وكلّ صاحب ثلاث يمنح صفة “نقيب”، ويوصف زوج الأربع بأنّه “جنرال”، ومن تجاوز الأربع فهو الإمبراطور ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم!
وأهل ملاذ لا يحثّون النّاس على تقليدهم؛ ولا يصدّونهم عن المضي فيه، بيد أنّهم يضيئون الطّريق لمن شاء سلوكه، كي يمنعوا العثرات، ويقلّلوا من المشكلات، ويخدموا مجتمعهم، وكم حالوا دون الانزلاق إلى حمأة الفراق، أو منعوا أمرًا قبل وقوعه لاستحالة نجاحه.
وفي عملهم ومبادراتهم بركة وأجر وتوازن؛ إذا تجاوز من يعلم عنه النّزق الموروث عن الإعلام، والغيرة المفطورة في الجبلّة البشريّة، فخير النّاس أنفعهم لأهله ومجتمعه وبلاده، وإنّ تكوين أسرة متآلفة، وحماية الأسر القائمة، لمن أعظم القربات التي ينتج عنها الأمن، والنّماء، والاستقرار، والتّعاون، وحفظ المقاصد الشّرعيّة التي يناكفها شياطين الإنس والجنّ.
ونجمت فكرة المجموعة في ذهن من أنشأها صبيحة اليوم الأوّل من زواجه الثّاني، فقرّر جمع ذوي الخبرة والاختصاص، كي يستفيد منهم شخصيّاً، ثمّ تنتقل الفائدة لآخرين وهو ما كان، حيث أنّ نتاج حوارات المجموعة، وخبراتها، محفوظ متداول، ولبعضهم حسابات ومعرّفات أسرية تعطي الاستشارة المجانيّة دون أن تكون مسعرة حرب أو مرجفة ومخذّلة. ونقل بعضهم التّجارب الإدارية الصّارمة لمجموعات أخرى يشتركون فيها وهي خاصة بالتّلاوات القرآنيّة، أو تدبر الآيات والسّور، أو الشّعر، والصّحة، والثّقافة، والتّجارة، والرّياضة، وغيرها.
وبغضّ النّظر عن الحنق الذي قد يصيب البعض من خبر هذه المجموعة وشأنها، فلا مناص من الإشارة إلى أمرين، أوّلهما أنّه لا غنى للرّجل عن المرأة والعكس، وقلّما يكتفي رجل بامرأة واحدة والشّرح يطول، والشّواهد كثيرة، وإذا عزم الرّجل على زواج آخر بجديّة، فمراجعة قراره ثمّ إمضائه أو إنهائه على بيّنة ويقين خير له ولشركائه ولمجتمعه.
وثاني الأمرين، أنّ كلّ مجتمع يضمّ أصحاب خبرات، وقدرات، ومواهب، وتجارب، وما أحوجنا إلى أهل مروءات ومبادرات كي يجمعوا شتات هؤلاء اجتماعًا فيزيائيًا أو افتراضيًا؛ ليتبادلوا ما عندهم، ويطوّر بعضهم بعضًا، ويتعاون الجميع على البّر والتّقوى، ونفع المجتمع، فأيّ خير يجلب، أو شر يدفع، فهو مصلحة شرعيّة مطلوبة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف -الرِّياض
الخميس 10 من شهرِ محرّم الحرام عام 1440
20 من شهر سبتمبر عام 2018م
3 Comments
ما أروع بنانك وما أرق حرفك
أراك تتجول في أذهاننا بيسر كلماتك وتحلق بخيالنا بجميل أوصافك
إن كان للأدب مداد فهو بيانك
وإن كان لصوته طرب فلا أشك أن لصرير قلمك عزف يطرب له كل متذوق للأدب
شكرا للطفك، وعالم الحرف مليء بمن يحقق هذه الأوصاف وزيادة، وإنك لمنهم، فاكتب يا رجل!