ذكريات في الحج والعمرة
يواجه المسافر في رحلاته مواقف يتفاعل معها، تغضبه، أو تربكه، أو تدهشه، وبعد تجاوز الموقف، تبقى ذكرياته عالقة في الذّهن ليستحضرها في مناسباتها. ومن أمتع الرّحلات قصد مكة للحج أو العمرة أو المجاورة، وهي متعة حرم منها من يطوف الدّنيا دون أن يطوف حول البيت العتيق!
ولأجل ذلك، تبقى ذكريات الحج والعمرة حيّة على ألسنة النّاس، خاصّة أولئك الذين صرفوا نفائس الأموال بغية الوصول إلى بيت الله، فتكاد كلّ لحظة في الجوار أن تحمل معها ذكريات تستعذب، ولا يبليها الزّمان وإن تطاول، ولا تمحى من الذّاكرة وإن شاخت.
وهذه بعض المواقف التي حدثت في الحج والعمرة لي، أو لأحد من أصدقائي، وأحببت تقييدها عسى أن تكون من التّشويق والحضّ على أداء هذه الفريضة العظيمة، التي دخلت في التّفسير والفقه، وضمن التّاريخ والبلدان، وما أعظم بركة مكة على أهلها وزائريها، بل على كلّ مسلم.
واحد عن ثلاثة!:
ركبنا في حافلة صغيرة كي تنقلنا من الحرم إلى منى يوم التّروية، وطلب السّائق العربي مبلغًا ضخمًا فالموسم له، وبحكم الاضطرار وافقنا مع اشتراط ألّا يصطحب أحدًا سوانا، وكنّا أربعة، وأحدنا بدين جدًا، وهو الأكبر سنّاً.
ولم يلتزم السّائق بالشّرط، وتوّقف لإركاب حاج، وثان، وثالث، وبعد الثّالث انفجر صاحبنا البدين في وجهه مذكرًا إيّاه بالاتّفاق، فأجاب السّائق بكلّ برود وسماجة: لأصحابك فقط الحقّ في الاعتراض؛ فأنت -مع العذر لك- تحتل ثلاثة مقاعد!
صيدلاني في الحرم:
مكثنا في سطح الحرم الشّريف بين التّراويح والقيام، نقرأ في تفسير الآيات حينًا، ونتناقش حينًا آخر، وصادف أن تحاورنا حول مسمّى وظيفة الصّيدلي، فالرّجل صيدلي، وصيدلاني، بينما المرأة يقال لها: صيدلانيّة ولا توصف ألبتة بأنّها صيدليّة حتى لا يختلط المعنى مع متاجر الدّواء.
فالتفت إلينا رجل بشوش يجلس أمامنا، ويبدو أنّه سبعيني، وسألنا: ما تقولون عن الصّيدلاني؟ فأجبناه: لا نقول إلّا خيرًا! فقال: أنا صيدلاني! فاستغربنا وسألناه: هل درست في مصر! فأجاب بالنّفي وأنّ دراسته محليّة! فقلنا له بأنّ أكبر خريج من كليّة الصّيدلة الوحيدة حينذاك أصغر منك عمرًا! فابتسم وقال أنا صيدلاني من قبيلة جهينة، ولست ممتهنًا للصّيدلة، وحقّاً فلدى جهينة الخبر اليقين.
سرُّ ضياع البّشت:
في أحد مواسم الحج الباردة، التحف زميل عزيز بعباءته من الوبر النّفيس أثناء النّوم، وحين استيقظنا لصلاة الفجر ذهبنا للوضوء على أقسام كي لا تخلو الخيمة، ثمّ رجعنا وصلينا، وبعد الفراغ من الصّلاة والأذكار بحث صاحبنا عن عباءته فلم يجدها، وظننّا في أوّل الأمر أنّ اختفاءها مزحة من زميل، بيد أنّنا نبشنا الخيمة الصّغيرة ولم نجد لها أثرًا، وأعتبر بعضنا أنّ اختفاء بشت فلان من الألغاز التي لم تفك شفرتها.
طلب على طريقة أبي دلامة:
الجلوس للفطور في الحرم من أجمل الّلحظات، وأحسن ما يكون حين يتشارك معك آخرون من أقطار الدّنيا، ومن الغريب أنّ الأتراك يشربون الشّاي مع التّمر، بينما يقتدي بعض العرب بصنيع أبي دلامة، فيطلب منك منديلًا، ثمّ كأساً فارغة، وبعده يأخذ رغيفًا، ثمّ جبنة، وأخيرًا يملأ كأسه بالشّاي ليعالج به هذه المنظومة من الطّلبات.
وذات مرّة شاركنا مسلم غير عربي، وفهمت من إشاراته أنّه لم يستطع تشغيل هاتفه المحمول، وبالتّالي انقطع تواصله مع أهله، فأخذت الجهاز منه، وأخرجت البطاريّة ثمّ أعدتها فالتقط الجوال الإرسال، ولم يستطع الرّجل المندهش أن يعبّر عن شكره بلسانه؛ فوضع مسبحته في يدي، وانصرف.
أبو علي غير قابل للتّفاوض!:
رافقنا في الحج جار لأحد الأصحاب الكرام، وكان هذا الجار مفتونًا بالرّحلات البريّة، مما يعني أنّه خبير في شؤون تفيد الحجّاج، ثمّ عزم أصحاب هذا الرّجل على الحج، فحجزنا لهم خيمة بجوار خيمتنا، وذهب أكبرنا عمرًا لزيارتهم، وأوصاه بعضنا بأنّ كلّ شيء قابل للتّفاوض إلّا أبا علي!
اللهم زوّج عثمان:
سمع قريبي في أثناء الطّواف رجلًا وامرأة من بلد عربي يكرّران هذا الدّعاء بصوت مرتفع: اللهم زوّج عثمان! فالتفت إلى شقيقته المصاحبة له، وابتسم وكأنّه يقول لها: أنا عثمان وأبحث عن زوجة أيضًا، فالّلهم آمين.
خش في عينه!:
كنت أمشي مع رفيقي لرمي الجمرات في أوّل أيام التّشريق، وكانت الجمرات على خلاف وضعها الحالي الذي أنهى بفضل الله وتوفيقه مشكلة الجمرات وآمل ألّا تعود. المهم أنّنا شاهدنا ثلاثة رجال ضخام من بلد عربي يهرولون وهم يردّدون بعامّيتهم: خشّ عليه! خش في عينه! فاستوقفناهم بلطف وسألناهم من المقصود؟ فقالوا: الشّيطان! فقلنا لهم: يا جماعة هذه مشاعر مقدّسة، والجموع مزدحمة، فليس ثمَّ شيطان، ولو افترضنا وجوده جدلًا لكان الزّحام مانعًا من هذا السّلوك الهجومي! هل أخبركم أنّهم لم يقتنعوا، وويل للشّيطان وويل لعينه!
الجهل آفة:
أخبرني صديق أنّه ذهب لزيارة أقاربه القادمين من بلدهم لأداء الحج، وكان بعض كبار السّن متذمرًا من الزّحمة والحر ويقول: كلّ هذا لأجل أن نقف عند جبل في السّعودية! وقال لي آخر: أنّه رأى حاجًا من بلاد عربيّة قصيّة يلبس طاقيّة في يوم عرفة، فقال له: هذا محظور في الإحرام! فأجاب العربي المناكف: أنا ألبس طاقيّة وملابس داخليّة أيضًا! فهل أحاسب على ذلك وأنا القادم من مسافات بعيدة!
وذهب أستاذ جامعي عربي للحج لأوّل مرّة، واستكبر أن يسأل عن أحكام الحج، على اعتبار أنّ المشايخ حوله “عيال صغار”؛ فوقع في أخطاء فادحة، وعاد أدراجه للرّياض مريضًا دون أن يؤدي نسكه، فأراد زميله تسليته قائلًا: لعلّه تكفير ذنوب! فانتفض البروفيسور قائلًا من فوره: ذنوب ماذا! أعند مثلي ذنوب!
الوارم الضّائع وراشد النّائم:
نحفظ أموال رحلة الحج مع شخص واحد لضبط الصّرف مع ما في ذلك من مخاطر، ونسمّي حافظة المال “الوارم” لأنّ الورم يعني الانتفاخ، والحافظة منتفخة بما فيها من أموال، وننادي حامله أين الوارم؟ هات الوارم! حتى لا يفهم أحد المقصود، ومع ذلك ضاع الوارم أو سرق ذات مرّة.
وإذا خرجنا من المخيّم لرمي الجمرات، وضعنا مجموعة من الوسائد على هيئة إنسان نائم ملتحف، ثمّ نناديه بصوت عال نحن ذاهبون يا راشد! وإذا عدنا قلنا أيقظوا راشد النّائم، والله يديم الأمن والهناء على الحرمين وجميع البلاد.
فتاة تقفز من سطح الجمرات:
انتظرنا وقت الزّوال في اليوم الحادي عشر ونحن متكئون على جدار دور علوي للجمرات، فأقبلت أسرة أكثرها نساء، وفجأة انطلقت منهم شابة تريد أن ترمي نفسها من فوق الجدار لولا أن تداركها أخوها وأختها، وكانت حركاتها، وكلماتها، وصوتها الغريب، توحي بأنّها مبتلاة بالمسّ، فأقبل إليها شيخ مسنٌّ يرقيها بفاتحة الكتاب وهي تضربه بعنف حتى خارت قواها، واستسلمت لآي الكتاب العزيز، ويا له من منظر محزن.
البساط الأخضر المبارك:
حججنا منذ عشرين عامًا تقريبًا، وحين هممنا بدخول عرفة، اكتشفنا أن ليس معنا فراش للجلوس عليه، فتوقفنا عند أحد المتاجر الكبرى، واشترينا فرشة خضراء جميلة، وبعد قفولنا من الحج اشتراها أحدنا بثمن زهيد، فاشترطنا عليه أن ترافقنا الفرشة الخضراء في كلّ رحلة إلى مكة ووافق. وطبعًا كان الشّرط والموافقة عليه من قبيل المزاح، بيد أنّ هذه الفرشة ظلّت أساسيّة في كلّ رحلة مكيّة، وخشية عليها من التّلف تبرع صديق كريم بإلباسها غطاء يحميها، ويطيل عمرها، بعد أن رافقنا وجلس عليها وعرف حكايتها، ولازالت موجودة محفوظة وكأنّها جديدة لم تستعمل.
طائفان يتنازعان على عجوز:
يقول أحدهم: حججت مع زوجتي، وفي المطاف رأينا عجوزًا نشيطة تطوف، فقلت لزوجتي: اتبعيها وأنا معك خلال الطّواف، ثمّ لاحظ الرّاوي رجلًا آخر يقترب من العجوز، فأخذ الرّاوي يدفعه برفق، ومع ذلك يصرّ الرّجل على الاقتراب، فأشار الرّاوي إلى العجوز مخاطبًا الرّجل: هذه أمّي وقلبها متعب، فلا تزعجنا وتحجز بيني وبينها! فما كان من الرّجل إلّا أن ابتسم وأخذ بيد العجوز فهي أمّه!
جحاجح في الحج:
أسعدنا زميل كاتب وشاعر بالمرافقة إلى المشاعر والشّعائر، وبعد العودة إلى الرّياض أرسل لنا قصيدة لا تزال محفوظة مع أنّ عمرها يقترب من عشر سنوات، وبعض كلمات هذه الأبيات ترتبط بسياق، وتحتاج إلى شرح، وعسى أن يكون ذلك في موضع آخر، وفيها يقول شاعرنا:
صِحَــــاب لنا في الحج غرّ جحاجح | تُــطيب القـــــوافي فيهـــم والمــــدائح | |
صيـــادلــــــــــة يجنـــــون كـــــــلّ كـــــــــــريمــــــــــــــــــة | وعطر شذاياهـــــم زكـــــــي وفائـــــح | |
أُمــــــــير كـــــريّم يــــجعــــــل الــــرّفـــق ديـــــــنـــه | خبير بأمـــر الحج والعقل راجـــح | |
ومــــفــــت أديــــب بالمنـــــَــاســـــك عـــــــالم | ومـــــن كـــلّ أزهـــار الفوائـــد ماتح | |
ومــــــن كإمـــــــــام خــــــاشــــــع في تـــــــــلاوة | وراويــــة الآداب بالشّعر صـــــادح | |
وصـاحب “بيجي” ألمــــعي وحــــــــاذق | وسيّدنا في الـــــذّكر والأجر رابح | |
وخـــــازن أمــــــوال الــــــــرّفــــاق سـميــــــــدع | أمـــــين وبـــــــالتّدبير كــــفــــــؤ وصالح | |
ومــــــــؤنـس أصـــــحاب إذا مــــــا رأيتــــــــه | أزال همــــــــوم القــــلب بـــرّ وناصح | |
أولئــــــــــك أصحــــــــابي فجئني بمثـــــــــلهم
|
إذا جمـــــــــعتنا والحــجيـــج الأباطح
|
|
كـــــــــــــــــرام أبـــــــــاة مشـــــــمعلــــــــون قــــدوة |
بهم تفخر الرّكبــان والحقّ واضح
|
وليست هذه جميع ما تختزنه الذّاكرة، ولعل قسمًا مما لم يكتب أن يروى في مناسبة أخرى، فالّلهم تقبّل من الحجّاج والمعتمرين والزّوار والمجاورين، واحفظ بيتك قبلة للمسلمين، ومنارة يهتدى بها من ظلمات الدّنيا، واجعله آمنًا تجلب إليه الخيرات والثّمرات، وتكون فيه ومنه المكرمات والبركات إلى قيام السّاعة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض
الأربعاء 18 من شهرِ ذي الحجّة الحرام عام 1439
29 من شهر أغسطس عام 2018م
3 Comments
مقال رائع اخي احمد واشهد الله على حبك جمعنا الله واياك في جنة النعيم
رعاكم الله أبا يوسف.