قراءة وكتابة

التّدوين: حين تنتصر الكلمة!

التّدوين: حين تنتصر الكلمة!

الكتابة فعل حضاري كبير، يجمع الرّقي من أطرافه، ففيه علم ومعرفة، وتفكير وتحليل، وبيان وتعبير، وإنّ فشو الكتابة لمعين على ارتقاء وعي المجتمعات، وحافز على التّعلم الذّاتي، ومعين على التّأمل والتّفكر، وسبب يربط النّاس بالقراءة والكتاب، وطريق لتنويع المصادر بعيداً عن الاستقطاب والمرجعيات المحصورة، وفوق ذلك تمنح صاحبها سموّاً في العبارة، ولباقة في الاعتراض، وبلاغة في الإيضاح، وهذه هي الصّورة الإيجابيّة الغالبة؛ ولا يمتنع وجود ما يضادها كليّة أو جزئياً؛ فالكمال عزيز.

وما تخلو هذه الوخزة اللذيذة-الكتابة-من شوائب بحكم الطّبيعة البشريّة، أو بنرجسيّة بعض الكتّاب، ومنها التّعصب لشيء أو فكرة أو توجه، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، والهوى المانع من إبصار بقيّة الطرق والاحتمالات، فضلاً عمّا قد يحيط بعملية الكتابة من أعراف بالية، وحواجز صلبة، وعوائق أمنية؛ وكم في إرث الكاتب من كلمات وجمل وتلميحات كافية للزّج به في غياهب السّجون عوضاً عن جعله تحت الأضواء، أو كفيلة برفعه على أعواد المشانق بدلاً من إبرازه فوق منصات التّكريم!

وليست الكتابة خياراً للكاتب إن شاء فعله أو تركه؛ بل تكاد أن تكون قدراً محتوماً، فالكاتب الذي لا يمارس مهنته المقدّسة، يختنق ويضيق به جلده حتى تسوَّد الدّنيا في عينيه؛ فلا يجلو ظلمتها سوى كلماته وحروفه حين يراها متراصة كصفوف المصلين في محراب التّعبد، أو مثل كتائب الجنود في ساحة القتال، أو كأسراب المنتظرين أمام أيّ مصلحة يطرقون باب العمل والأمل.

وتتنوع غايات الكتابة، فمنها بوح عاشق، أو صراخ مظلوم، أو أنين غريب، أو تحذير ناصح، أو تحليل بصير، أو إخبار عارف، أو بيان عالم، أو تجليّات مفكر، أو إبداع أديب، وهي في غالب أحوالها نفثات مصدور، ولا بدّ للمصدور أن ينفث يوماً ما؛ لأنّ بقاء الكلام سجيناً في الصّدر كفيل بتحطيم القلب والحجاب الحاجز وما حولهما.

وترتبط الكتابة بالزّمن ارتباطاً لصيقاً، فهي إمّا رواية للماضي، أو انغماس في الحاضر، أو استشراف للمستقبل، ولعلّ أكملها، وأعظمها أثراً، ما عاش مع الماضي بكافة رواياته لتحصيل دراية عميقة، تفسر للإنسان ما مضى، وتوضح له ما يجري، كي يستعد لما سيأتي، فحلقات التّاريخ حقائق متكررة؛ وإن اختلفت الأسماء، والمواضع، والتّفاصيل.

ومع أنّ الانترنت، ووسائل التّواصل الاجتماعي قد كسرت الاحتكار الرسمي والمؤسساتي للإعلام الخبري والتّحليلي، إلا أنّها جعلت السّاحة مفتوحة لكلّ أحد ولو لم يتأهل بأدب وعلم، ونجم عن ذلك أحياناً انتشار السّباب، والمعرفات المجهولة، والتّنابز على عدّة مستويات مجتمعيّة، وفكريّة، ومناطقيّة، ومذهبيّة؛ مما أجفل عدداً من القادرين عن دخول هذا المعترك حفظاً لوقارهم، وضنّاً بأوقاتهم وسمعتهم عن الهراء والتّهارش.

وفي خضّم الانشغال بالتّغريد المختصر، والتّصوير الكثيف، والّلهاث خلفهما، تبقى الكتابة الواسعة، والتّدوين الأطول، من أفضل الوسائل لإسماع النّاس آراءً رزينة، وإيقافهم على حقائق جديدة، واستحياء معاني مندثرة، وإيقاد شعلة وعي خالدة، وتجعل المتلقي على أهبة الاستعداد لقطف ما يطيب له، والإعراض عمّا لا يروق له، في سوق فكريّة، وساحة مفتوحة، لمن يستطيع أن يقول فينفع، ويعترض فلا يقذف، ويحاور دون أن يقامر.

فمرحباً بالتّدوين، وأهلاً بمن يدخل عالمه بعلم وحكمة وأدب؛ ليزيد في المحتوى العربي الأنيق، وليرفع الوعي بين فئات مجتمعه، ويوصل حرفه إلى كل ناطق بالضّاد، فيسمع ساكن الجزيرة العربية صوت أخيه المغربي، ويلتقط المصري رسائل الشامي، ويتواصل الترّكي مع الهندي، ويتردّد حرف فلسطين في كلّ زاوية وناحية، وتقول الكلمة البليغة، والجملة الفصيحة، ما لم تبلغه آلة التّصوير، أو تلتقطه آلة التّسجيل.

وقد آن لأجيال الكتّاب أن يتيقنوا بأنّ كلماتهم ليست صرخة ضائعة في واد سحيق مهجور، وأفكارهم ليست نفخة عبثيّة في رماد بارد قليل، وعسى أن تتكاتف جهود الكافة نحو خدمة الأمة، ونصرة قضاياها، والانتصار لثقافتها ومكوّناتها، فأوّل التّغيير كلمة حق تقال في وجه إعلام التّجهيل والتّطبيل والتّزوير، وأوّل الوعي فكرة خلاقة تنير العقل ليكتشف المسار نحو طريق الخروج من التّيه؛ وبذلك تكون الكتابة أداة مقاومة وتحرير وتنوير، وتغدو الكلمة لكمة لطيفة موقظة!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 08 من شهرِ ذي القعدة عام 1437

11 من شهر أغسطس 2016 م.

 

Please follow and like us:

One Comment

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاك الله خيرا ايها الكاتب الاخ الفاضل احمد حفظه الله ورعاه لمقالك القيم والهادف من اول سطر وحتى اخر سطر فيه. سائلة العلي القدير بهذا اليوم الفضيل الثاني من ذي الحجة الذي تتضاعف الاعمال الحسنة فيه. ان يبارك لك في عمرك وفي وقتك وفي كتاباتك وفي كل مناحي حياتك ويوفقك لما يحب ويرضى . فنحن القراء اللذين يقراؤن مقالاتكم ويستفيدون منها .من باب مكارم الاخلاق ان يشكروهم ويدعوا لهم بالتوفيق والنجاح والقبول والعمر المديد . فالاعجاب والتقدير ولتقييم واجب على القارئ بحديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله .والاهم من كل ماسبق فالثواب هو وحده الذي يبقى للكاتب .ولدعوة واحدة للكاتب من قارئ حاضر القلب مع الله تفيد في دنياه بعد عمر طويل وفي اخرته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)